غوايات

موت مهزوم

ها أنا أقف هنا من جديد في كامل هيبتي، وحيدٌ كصبار الصحراء ومحيطٌ بكل ما حولي كرمالها. تراني -إن استطعتْ- شبحاً عملاقاً بارز الملامح و باهتها معاً. جاثمٌ على طرفَي الطريق السريعة المؤدية من المدينة المزدحمة بالبشر إلى القرى النائمة بعيداً في خمول قلة ساكنيها.

في هذا الوقت بالذات، و هنا تحديداً، أجد لي عملاً جديداً عليّ إنجازه. عملي مملٌ بعض الشيء، لا أثر فيه للتشويق والمتعة. أحياناً يبدو لي مُرهِقاً جداً أكاد لا أُنهيه، وأحياناً أخرى أنجزه في لمحة بصر، يعتمد ذلك على مَن مِن البشر سيكون عملي معه.

يبدأ الآن روتين عملي بأن أراقب المكان، مُتملّكاً طول الطريق و ما حوله، أتربص بسائقي الشاحنات الكبيرة و أصحاب المركبات المتهورين وغيرهم ممن اقتضى الأمر أن أراقبهم. أعاين بنظراتي الفارغة راكبي الحافلات السفرية، و السيارات الخاصة، أولئك الذين لم يتمنوا في أسوأ أحلامهم أن يلتقوا بي. أراقبهم بشهية مفتوحة، بدمٍ بارد و بقسوة أحياناً، كشرطيّ مرور قصير البال سريع الغضب، ونافد الصبر.

حسناً، أظنني انهمكتُ كثيراً في وصف عملي. ينبغي في البدء أن أعرّف عني أولاً. ستتعجب أنّ مثلي يمكن أن يكون له قصة يحكيها، و يستمع له آخرون. معك حق؛ فحتى أنا لم أعتد أن يستمع لي أحد. فأنا منبوذ، مشؤوم، مغضوبٌ عليّ، مكروه بشدّة و غير مرحَّبٌ بي على الإطلاق. لا شخص يحبني بالمرة، لا أحد يتمنى صحبتي، و الكل يتطيّر من ذكري. لا مبالغة في ذلك يا صديقي، فأنا أسوأ الكوابيس بالنسبة للجميع، لستُ شيطاناً، لكني بغيضٌ كشيطان، ستتمنى لو تلتقي الشيطان ولا تلتقيني. أنا هادم لذاتٍ معروف منذ الأزل، سالب ضحكات متمرس، وسارقٌ محترف للحظات الجميلة و لكل اللحظات على السواء.

أنا موت. أجل، عرفتني؟ أنا نهايةُ جسد و زوال روح.  غيابٌ أبديٌّ و رحيلٌ فجائي قاسٍ. أنا سفرٌ طويل لا عودة منه، وضيفٌ ثقيل و مزعج لا يُطاق برغم أنه لا يُطيل البقاء. تهابني الأجساد و تتجنبني. قلوب الكائنات منذ مُنحتْ لها الحياة و هي تنبض في تسارعٍ مجنون خشيةَ تمكّني منها. يرعبها وجودي بشدة، لأن حضوري يقضي بفراقها الأبدي من أرواحها ومنبت  حياتها. أما الأرواح فتألفني، تتمناني أحياناً، تجد فيّ الأمان المطلق إذ أعيدها إلى حيث تنتمي و تأنس، بعد أن تُرهقها من الجسد الحياة.

لنعد الآن إلى عملي، هنا إنتصاف يوم حار و قائظ، شمسه شرسة ومتوهجة كعدة شموس معاً. كل الكائنات هنا تكاد تحترق واقفة، أو يكاد هؤلاء الواقفون هنا على جانبي الطريق أن يتحولوا لسائلٍ ما و يتبخروا تماماً، من شدة ما نضحَ من عرقٍ من جباههم و كل جزءٍ من أجزاء أجسامهم بفعل الشمس. لكنّهم  لا زالوا واقفين، يؤدون عملاً أو ينتظرون مقدم مركبة تقلّهم بعيداً وتقيهم حر الشمس. يقفون لساعات كتماثيل برونزية عليها قطعٌ من القماش و على جوانبها خيوطُ ماءٍ منسابة.

لقد اعتدت على هذا المكان. أزوره كثيراً لأداء عملي كصائد أرواح في أحد أكثر الأماكن التي يمكن أن تُهدَر فيها الأرواح -طريقٌ سريعة- غير أني لا أشعر بالحرارة، و لا تؤذيني الشمس. أنا عديم الشعور، فاقدٌ للإحساس و بارد. بهذه الصفات صرختْ في وجهي ذات مرة أمٌ مفجوعة. أذكر أني في لحظة جوع لروحٍ غضة و حياة فتية، خطفتُ روح طفلها الصغير. كان في الثانية عشر من عمره. هناك عند ماء النيل صارعني و حاول الفرار مني بجهدّ بالغ، بينما جسده يحاول الخروج من الماء بكل ما بقيَ من قليل قوته التي انهارت. أذكر أني غلبتُه و فزتُ بروحه. استطاع آخرون أن  يخرجوه من الماء، لكني كنت قد التهمتُ روحه بسرعة خاطفة لم تتح لأي منهم أن يجتذبها مني. تركتُ جسده هزيلاً هامداً بلا حياة وعلى فمه ضحكة لم تمت فأفزعتني. عندما قدمت الأمُّ إلى الضفة لم تخاطب ابنها المسجي جثةً بلا حراك، لكنّها خاطبتني،  كالت لي من الشتائم ما لستُ أحصيه، وبختني، لعنتني، بصقت على وجهي، و زجرتني. ثم رفعت بصرها للسماء وسألت في كلمات متقطعة و بصوتٍ متعذب وقلبٍ ممزق: “كرِّه الموت في وِليداتنا يا الله”. عندها تضخّم كبريائي، انتشيت، حملتُ روح طفلها وغادرت المكان.

يا إلهي، لماذا أتذكر هذا الآن. سأعود لعملي من جديد. هنا في الطريق السريعة، الآن يحدث الإصطدام. لحظةٌ رهيبة و مُفجعة للجميع، إلايَ طبعاً. يتوقف الزمن، و يضطرب المكان بكل من فيه و كل ما فيه. يصرخ الجميع مذهولين، يتوقف السير ويرتسم مشهد الموت حول المركبتين اللتين تصادمتا بعنفٍ دهسهما معاً تماماً. الناس من أولئك الذين يمتلكون القدرة على الإقتراب يبدأون بالإزدحام حول المكان، يُبدُون التعاطف، يترحمون و يذكرون الله. أصواتُ البكاء، عويلُ النساء و تأوهات الأطفال،  لون الدم، حطام السيارتين، حرارة المكان التي ارتفعت لمائة درجة بفعل النيران، ورائحة البنزين. كلها  تفاصيلٌ دسمة تفتح شهيتي لمزيدٍ من الأرواح. ثم كان هناك ما يثيرني حد الشراهة، الخوف. حملتُ أرواحاً عدة و رحلت سريعاً، كثيرون ممن حملت أرواحهم كانوا في حالة يُرثى لها من الخوف و الفزع. لقد كان نزع أرواحهم الخائفة و المضطربة مثيراً للنشوة.

حسناً، كما ترون فأنا لستُ طيباً. ليس بالقدر الذي يحعلني محبوباً مثلاً. لكني لستُ سيئاً تماماً ليكرهني الجميع. فهناك من البشر من يألفني، من استطاع بعمق إيمانٍ و يقين أن يتقبلني كنهاية لا فرار منها، ومصير مُستَحق. و هناك من وصل به الرهق أن ينتظرني كإبن ضال، وآخرون سعوا إلي بشكل مربك وداعٍ للحزن والشفقة.

و هناك تلك الطبيبة الشابة. أذكرها مراراً بلا توقف. تلك الفتاة التي انتزعتُ روح والدها في هونٍ تام بينما كانت جاثية بقربه في سرير المشفى تسيّر إلى أوردته آخر محلول حياة لم يفلح. تنهدت بألم ممزوج بحنان كبير حين أطلق جهاز القلب صفارته المألوفة، مُعلناً أن روح والدها قد فارقت جسده إليّ أنا. لم تبكِ و لم تصرخ بجنون، تماسكت تماماً و همست في أذن الجسد الميّت قبل أن تُغمض عينيه إلى الأبد : ” قالوا الموت سلام، ما يغشاكَ شر”.

ثم ابتسمت في وجهي إبتسامة من يدين لي بمعروفٍ قديم، لم تتمنى موت والدها، بقدر ما تمنت راحته التي عانى كثيراً من غيابها. شعرتُ عندها بالهزيمة، كانت تلك واحدة من اللحظات المريرة التي أشعر فيها بأني مهزوم، وضيعٌ ولا شأن لي. لم أشعر -كما ينبغي لي- بأني مرهوبُ الجانب ومُهاب، شعرتُ أني حدثٌ عابر وكفى، غريب جاء ورحل بالجسد، لكن الروح باقية لم تزل. كنت دائماً أنتشي بمتعة صيد الروح وترك الجسد بالٍ بلا قيمة ليُدفن في عجز. لكن الفتاة بابتسامتها، بثباتها، بحديثها المطوّل مع جسد والدها؛ بل مع روحه التي ظلت هناك. و بعملها في الطب عمراً تنازعني في أرواح الكثيرين فتغلبني أحياناً و تنتصر لحياة مُنْقَذة احياناً أخرى. هذه الفتاة بكل ذلك هزمتني تماماً.

كلما تذكرت هذه الحادثة، تجيء ذكرى ذلك الشاب تزعزع ثباتي. الشاب الذي شاركها فعل هزيمتي في مشهدٍ مماثل، لا بل كان أشدّ إهانة لي. لن أنساه أبداً. كان قد خرج في ذلك اليوم المعلّن للجميع، أثناء أحداث العنف و الاضطراب التي واجهت البلاد زمناً. خرج واثقاً ليواجهني و هو يدري. يوم الحرية، هكذا أسموه فيما بينهم و اتفقوا على أن يكون يوماً يهتز منه كرسي الجنرال. قبل أن يغادر المنزل قبّل جبين والدته و أطال في احتضانها، أمطرت عليه وابلاً من القُبل وسيلاً من صادق الدعوات. ثم خرج ليلتقي بآخرين، منهم من كان يعرفهم سلفاً، و كثيرون التقى بهم لأول مرة في ذلك اليوم، قبل ساعات من لقائه بي.

“سلام” هكذا سمعتهم ينادونه، كان شاباً في منتصف عقده الثالث، مرحاً مُحباً للحياة. كثيرُ الكلام و الضحك. عطوفاً بشوشاً و خفيفاً في حضوره كنسمة صيف. كانت حياته مكتظة -على قلة سنواتها- بالتجارب الشيّقة والأحداث الغريبة، مليئة بالسفر والرحلات ومعرفة أصدقاءَ جدد، بالكتب والقصص وأبيات الشعر، بالألحان العذبة و بالحب، كانت حياته هائلة، مزدحمة بتفاصيل ذات قداسةً وجلال جعلت من روحه ثمرةً يانعة قطفتُها قطفاً، لم أنتزعها.

في يوم التقيت به، تجمعوا في حشد هادر،هتفوا بقوة. رفعوا أعلاماً وصوراً و مطبوعات، نادوا بالحرية وبالأمان،  بحق الأطفال الصغار في الحياة ، طالبوا بالسلام وبالعدل. هتفوا ضدّي كأني عدو لهم، وعنوا بذلك طلب الحياة لا أكثر. استبسلوا وصمدوا كدروع، لم يتراجعوا، جحظت عيونهم من فرط شجاعتهم و هم يهتفون في وجه الجنرال وفي وجهي. احترقت في حناجرهم الهتافات و اشعلوا في الساحات ناراً.

الجنرال كان يرقبهم بنفاد صبر، يجيء و يذهب بين حراسه الألف الواقفين على بعد أمتار قليلة من الحشد الغاضب. كان مرتعباً ومذعوراً كقط تحت المطر، لكنه كان يحمل ألف سلاح معاً وبحركة من يده، كان بإمكانه أن يطلق عنانها جميعاً.

الحشد استمر في الهتاف، في الغضب، في الصمود، وفي زجْر الخوف بعيداً. تحرّكوا للأمام نحو جيش الجنرال فارتبك أكثر. عندها نظر إليّ في ذهول و فزع، و كأنه يتوعدني ألّا أفعل به شيئاً، و أنا الذي اشتهيت روحه في ذلك اليوم كثيراً، لكني لم أفعلها.

كنت أود لو أغادر المكان، شعرت أنني لا يجبُ أن أكون هنا، قاومتُ شهيتي للأرواح لكني لم أفلح. أثارني مشهد الألف سلاح، استعداد الحرّاس و دفق الأدرينالين المندفع في دمائهم ألهب رغبتي. أثارني خوفهم و خوف الجنرال. شعرتُ بالضيق، بالكآبة، و بالرغبة في فعل لا شيء.

أن يصرخ أحدهم في وجهي طالباً حقه في الحياة كان أمراً غريباً بالنسبة لي. وعندما لم أستطع البقاء أكثر، كان الجنرال يعلنها داوية في كامل ارتباكه و ضعفه. رفع يده آمراً جنده بإرسالي. أرسلوني عند إشارته للحشد الغاضب. كنتُ رصاصاً لا حد له، و عذاباً مطلقاً و نيران. عندها زال مني شعور الضيق، تمكنتُ من السيطرة عليَّ، عدت موتاً مُهاباً من جديد، و انتشيت برؤية الكثيرين يهربون، يغادرون بعيداً، ينجون بحياتهم و يخشونني في كامل الخنوع و الخوف و قلوبهم تخفق بشدة.

عندها كان هو الشاب “سلام”، صاحب الروح التي خدشتني رغم رقتها المفرطة. وقف صامداً في وجهي، في وجه الرصاصة التي حملتني إليه بوحشية، لم يتزحزح، بل تسمّر في مكانه كأنه لا يراني، لكنه كان ينظر إلى عيني تماماً. زلزل ثقتي بنفسي و أهانني، تذكرتُ حينها الفتاة الطبيبة، كان “سلام” أقسى عليّ منها. رفع يمناه عالياً،  شهر في وجهي وسطاه وسبابته. في ثبات و عزم عنيد، هتف بقوة مخاطباً خوف الجنرال : ” شوف موتي وراه كم حياة ؟ “. ثم اخترقت الرصاصة صدره، احتضنها قلبه المغمورُ حباً، ومات . مات واقفاً فأعجزني. قطفتُ روحه الغضة كثمرة محرمة. اكتفيت بها و أنا ذو النهم اللا نهائي، حملتها و بقيت قريباً أراقب مشهد الرصاص وأستنشق رائحة الدم و البارود. برغم أني كنت مثاراً بأيدي الجنود المتعطشة للدماء، إلا اني كنت مهزوماً تماماً بيُمنى “سلام”.

زر الذهاب إلى الأعلى