ثمارغوايات

إنعاشُ القُدامَى

كريم الصياد

ذهبتُ طويلاً إلى الأرض القديمة، أستنطق المكان بأبعاده العشرة عن آلهة بائدة. هل مات هنا إله؟ أسأل غير الأحياء عن موت الخالدين. هل سال دمٌ سماويّ؟ هل نبتت من جثة لاهوتية هذه الأشجار؟ هل انشقت تلك الأحجار وانفرطتْ من جسم هائل؟ نظرتُ في عيون البشَر، أبحث عن ذنب مهول، عن قاتلٍ-نبيٍّ، يعترف بما فعل أو يتهم غيره. ورقرقْتُ النهرَ بين أصابعي، علّ رفاتًا أو رمادًا يترسب بها مما وراء العالَم. حتى الأشجار جلدْتُها، وقشرت عنها لحاءها. هل أنتن أرامل الهائلين؟ هل لمستْ جذوركن قبرًا في حضيضٍ؟ سألتُ وعذّبت واستمعت، ولم أجد المكان إلا ليقشعرّ.

دخلتُ المعابد، واستمعتُ لهمس النقوش. لا أقرؤها ولكن أستعيد ألم الحجارة. ألمسها كالأعمى، وكل الذاهبين في الأرض عُميانُ. أضغطها بجسمي العاري لتنطبع نقوشُها أوشامًا ومخطوطات وجِلْدًا مُعَذَّبًا. وأغمض عينيّ مُوَشِّجًا ما التف من نقوش على جلدي بحروق الصلوات التي تتقوقع في أذني. أصير مَعبدًا حيًا مهجورًا. وأمشي على الأرض الخرساء بثقل الميراث. ولم أجد معبدًا إلا وأنبت في جسمي. ولم أجد عن الزمن القديم ناطقين.

أشعلتُ النار بكأسي، وتجرعته حتى تقيأتُ اللهبَ. سألت النار – وهي أقدم الكائنات – عن ظلال مشت في الأرض في أول العُمر. كانت النار تتجهّم ولا تجيب. كانت الجمرات تبرق ثم تغيب كطرف الجفون. تنظر لي في خشية من ذاك المنقِّب في الحقائق الحرام. أكلتْ النارُ كلَّ مدنِّسٍ وعافت مذاقي. اتّحدْتُ بالنار، فهاجرتْ من لحمي شظايا وضوءًا. عذّبتُها بالثلج. أرسلتُها في جحيم بارد. قطّعتُ أوصالها كهاربَ وأشعةً. جوّعتُها أيامًا، وحرمتُها من الانطفاء، فلم أعرف شعلةً إلا لعنتني في كل اندلاع، ولم أسمع انفجارًا إلا صامتًا عن الحق القديم.

تزوجتُ البحرَ، وضاجعتُها سنواتٍ، واستولدتُها الكائنات القشرية الشوهاء. قيدتُها على الصخور، ودخلتُها كل ليلة عدة أعوام، وبطنها تحبل وتنفجر بماخرات الموج وكاسراته. عايرتُها بأبنائها وبناتها. فتحتُ كل محارة بيتًا للدعارة. أكلتُ أسماكها نيئة، وقبضتُ على عنق أخطبوطها وحبارها بيد عارية. ربطتُ ثعبانها عُقَدًا. شربت ماءها الأملح. جعلتها سافلةً وشهّرت بها في العوالم. سجّلتُ لها وشيشَ موج المضاجعة، وصوّرتها وهي تخون الشمس والقمر، فلم أعرف موجةً إلا وكانت في الجاهلين.

أين الآلهة الصرعى؟ إن الآلهة لفي جحيم!

وقفتُ وتأملتُ المكانَ. أدركتُه سطحًا وعمقًا. حركتُ فيه يدي بحثًا عن أبعاد منطمرة لا في عمق، ولا في بعيد. محوت من لغتي الارتفاع والقُرب، واستبقيت فقط (هنا) و(هناك) دون مسافة أو اتجاه، فانفتحتْ لي فيه عَشر طبقات، لا يصفها الجسمُ ولا الفراغ، والتمع في أعمقها لهب قديم، هو سلف النار وجذر شجرتها. يترقرق في مشعل لم يصغه بشَر، على قبة قبر، في عالم ناءٍ، لا يحوي سواه.

مددت ذراعي في دوامة المكان، ونقّبتُ فيه عن رفات حجرية اختلطتْ بمعادن السلاسل، التي لم يصنعها إنسان، واندفنتْ تحت خوذات التعذيب، وخناجر الجِبال، وبراكين القروح، وهياكل الأفعوان، والرخ، وأُمَم كائنات العذاب. أخرجتُ الرفات ورصصته على الرفوف. كل حجرٍ عضو إله. وأنا عامل ترميم الآلهة الوثنية.

فارتفعتْ ببيتي وحديقتي التماثيل. وشاعت في المدينة أساطير العماليق، التي تتحرك في الليل، وتزداد حجمًا وصُلبًا في نشوة العائدين.

وكانت أشياء نراها، لم يرها أحدٌ!

 

* شاعر من  مصر

زر الذهاب إلى الأعلى