شهادات

مع المغيرة حسين حربية

الممر الثقافي: في هذا الحوار يحاور الشاعر محمد حسين شاعرًا آخر هو المغيرة حسين حربية حول أسئلة التجربة، بعد صدور كتابه الأول من دار المصورات مع مجموعة شعرية أخرى للشاعر الأصمعي باشري بمبادرة من منتدى مشافهة النص الشعري.

يقول مُحمَّد: إنه الشاعر، ومعاولُه تحرث حقولاً أخرى، حيث الكتابة يتناوشها التخليق، بعناصر لا تتوخَّى سماكةَ الوجود، لأنها الوجود غافلاً في خذلاناته، حيث تمَّحي الكلماتُ ليظهر النص، ولا حرية لديه خارج الشِّعري، إنه المغيرة حسين حربية، وهو الآن قد أصدر أولى مجموعاته الشعرية بمحبة عن طريق مشاركة بين منتدى مشافهة النص الشعري ودار المصورات للنشر.

حاوره: محمد حسين*

*دعنا نستلفُ قولة فالتر فون “تراني حلمت حياتي، أم أنها كانت حلماً”.. أنجزتَ كتابَك الأول مُؤخَّراً، كيف تنظرُ لهذا؟

أظنُّ أنها حماقةٌ فجَّة، أن تُغلِّفَ الشعر بين دفتي كتاب، وهو شيء فالتٌ، جانحٌ وعنيدٌ لا يُروَّض أبداً. الشعر مبثوث، كروحٍ أزلية غامضة، بين ثنايا الوجود وفي أطرافه القصية ويجدر بالشاعر الحقِّ أن يلتفت لمُهمَّتِه الشاقَّة: المحو، لا إنتاج الكتب، محو العالم ليظهر الوجود الآخر، محو الكلمات الأخرى ليظهر النص. ومع ذلك لستُ نادماً أن أصدرتُ كتاباً، ذلك يعني، ببساطة، أن الآخرين تعرفوا على حماقتي.

أمرٌ آخر، أن الكتابَ أُنْتِجَ بمحبَّةٍ فائقة، في ظلِّ شروطٍ قاسية، ضمن منشورات منتدى مشافهة النص الشعري وبألق الأصدقاء ووفائهم للشعر والحياة. فلهم مني عظيم التقدير.

*إذ ندلف لثنائية العالم_الكتابة، ونحن فيها مسبقاً، نجدك تندلق في ينابيعَ مُتعدِّدة للتدوين، الشعر، القصة، الرواية،…..إلى آخر الغوايات، كيف مصاهرك لكل هذا؟ أهي الكتابة؟ أهو الوجود؟ كيف تتشرب؟

أنا بشارةُ أمي، أنجو من الموت بالكتابة. قالت، وكنت طفلًا نحيلًا لا أقوى على مواجهة عضلات الوجود: “أنت لا تصلح إلا للكتابة”، دفعتني لأكثر الأعمال مشقَّة.

منذُ ذلك الوقت، بلا هوادة، أحاول، وبلا جدوى مثل ذلك، أن أُفتِّتُ العالم/عالمي الخاص، بمعول الكتابة، أُفتِّتُه لهتامات صغيرة وهشة، وأُشكِّلُه، شعرياً، لمُجابهة ألم الوجود ورعبه لكن الألم دائماً ينتصر.

أعتقد أن سؤال الأجناس الإبداعية فخ أيدولوجي ركيك الصياغة، طالما نحن في قلب المعركة ولم نجر وراءنا أذيال الخيبة بعد، الشعر معول مثلما أن الرواية هي معول آخر، غير أنها ثقيلة الحمل، لا يستطيعها سوى المعنيين بالخلق لا التفتيت، بالبناء لا بالهدم.

تريد أن تكون روائياً؟ حسنًا، هذا أمر بسيط، كن ربَّاً. تريد أن تكون شاعراً، اغمس الريشة في قلبك جيداً وتهيأ لنزال طويل.

*الأشراط في قسوة من أمرها؛ وهذا مستمرٌّ، أعلم أن لك كتاباً قبل الذي صدر، ماذا تقول عن سؤال النشر؟

تعني “هذا السديم” أم “مثل مذاق كونشيرتو”؟. عموماً، ومثلما أسلفت، فإن الكتاب صدر بمحبة الأصدقاء، شددنا سواعدنا، بعضها فوق بعض لنواجه، ذاتياً محنة النشر الورقي المُستفحلة في واقع ثقافي يتخلَّى عن واجبه ومسؤولياته تجاه مُبدعيه. أظنُّ أن هذا سلوكٌ جيِّدٌ لكنه أبداً لا يعوِّض غياب المُؤسسات غير المُبرَّر أبداً، سلطوية كانت أو أهلية ديمقراطية.

هناك عشرات المخطوطات الجيدة، لمبدعين كُثر، لا تزال سجينة العتمة، أنا زعيم، أنا ستُحوِّل مجرى الكتابة وتُحدِثُ التفاتةً هائلةً للمُنتج الإبداعي السوداني الآخذ في الاتساع والعمق. وها أنا ذا أحلم بتغيير صورة الإعلان التلفزيوني المُبتذل من الدعاية لصنوف الأطعمة ومستحضرات تبييض البشرة إلى الإعلان عن إصدارة جديدة لمصعب الرمادي، مثلاً.

إن النشر الميدوي، على أهميته، لا يُعوِّضُ النشرَ الورقي، فهو يُعطي صورةً مبهرةً للقراءة، متعجلة. أخيراً، أظن أن النشر، بشقيه، الميدوي والورقي يضعك أمام تجربة أن تتخلص من الألم، حيث لا خلاص أبدًا.

*في نصوص كتابك “طير غير مجنح” نجدنا بملاقط كثيرة تلهث في الظفر، كيمياء قديمة تتنادى، لنشتغل على ثيمة الزمن لديك؛ هل أصبح الزمن جسد الفرد؟

الزمن بمعناه الشعري، تكثيف للحظة، انولاد اللغة وتفجرها في كل اتجاه، من اليومي والبسيط إلى الوجودي المُركَّب، الغامض، الجامح، السرِّي، الذي لا يبدأ من حيث يبدأ ولا ينتهي أبداً. حوارية الذات والعالم، الغلاف والمحتوى خارج كل تفسير والفرد هنا شاهد على جسده مكشوفاً كلعنة أبدية. شاهد على الانهيارات الكبرى، على محوه بالذات دون إبداء أي نوع من المقاومة سوى الانخراط في العزلة أكثر. لكن الكتاب اشتغل على ثيمات أخرى، إذ إن الشعر، بوصفه لعبةَ حُريَّة بالأساس، طيش ومروق وضلال، حاول أن يدلف بطريقة أو أخرى. بمعنى أنه لا حرية خارج الشعري. خارج زمن الفرد.

*مرعوشة هي العناصر، حدِّثنا، التخليق لا التخلق، يبدو من الفج اتباعها بـ(كيف؟)، حدثنا، إلى أين؟

ربما لنهاية الصيرورة.. من يدري؟!

جئت من كنايات موحشة، من بلاغة نصف ميتة وانتبهت: الحياة كامنة، ككنز، في عمى الهامش، في مجتزءات النسيان، في اللاقول حتى. أن تكون بعيداً، هو أن تصهر الحدود في جولات لا نهائية، حدود الروح ولعبة المطلق، في الليل والموت وغابات الظلال، سرديات منسية بيد أنها ضاجة بالقول دون أن تخضع لارتكاسات معلمي اللغة وغيلتهم لمعنى الحياة، شعرية، بالضرورة، خارج كل قافية ووزن، خارج الرهانات الجاهزة، خارج كل ما هو مدرسي. مبرقعة وضد الصياغات النهائية لنشيد الوجود وملحميته. هناك جولات لم تبدأ وأخرى كامنة تحت طيات خبيئة هي الأخرى. مغامرات الأناشيد الجنائزية وأنطلوجيات الحزن التي تحطم سرادق الأمل المزيف.

*هناك ما يَخِز ويجْنُح، هناك ونعني “طير…” ثمة موت كثير أريق في كتابك، ما يكون؟. شعرياً طبعاً.

قبري طويل، يزحف ببطء في الشوارع {الشوارع جبانات يحرسها عسس المدينة}. الموت مسمومٌ بالحياة، بمرهم الوردة، بعطر جسد البنت، بعناق الصديق أمام حانة الندم، بالحرب الناشبة منذ أزل الإنسان، بمطالعة الأرصفة اليومية ككتاب رمل بورخيس الضرير، بالانطفاء، وحيداً، كُلَّ ليلة ولا سلوى سوى شاهدات المقابر التي تبرق كلافتات المحال التجارية وتُشوِّهُ طرقاتِ المُدُنِ الكسيحة. هذه الصهادات العنيفة، التي تسيل لتؤكد على الخراب الفاجع، موروثات الرماد المكومة كجثث أمام الأبواب. الموت تجوالك في اللحظة الماثلة، تسكعك البطيء، الحذر، النابض بالكسل والمُجازفة، لتفض اشتباكك مع الملل. نُريد الحياة لأنها لا تزال شعرية وغير مُكتشفة بعد، نريد الموت لأنه يجلو الحياة بحنان.

*لهذه الدرجة من الطفولة أُنجبت الحرية؛ بالتأكيد أنت من نعني؟ ما تكون؟ وما أثناءها؟

بعيدون جداً، نحن، عن الحرية، بمحمولها الاجتماعي والأدبي، لا زال البعض يرفع وصايا في وجهنا، بآلية قديمة. يرعبوننا بالشكل ويخوفوننا بالفوضى والجنجويد وداعش. لم نعد أطفالاً كما يريدون لنا، نحن أطفال على طريقتنا طالما نحن نصنع طعامنا بيدنا، طالما نواجه الموت بأسئلة الحياة، طالما، بالصرخات الجوانية، تدبر رندا ومحمد الصادق (إكسير).

أيتها الأغلال المقفاة والموزونة، اللافتات الصدئة، بخط مدرسي رتيب، الواجهات المنبرية، الصرخات صوب الخارج، المعمدون بالمياه، لا دم الولادة، يا حُرَّاسَ النوايا وحفَّاري القبور، مُرتهني الجُمَل ولا تُنصِتُون لصداها الذي يرن، شيعة المناصب، “فتاتة” الثقافة. الحق أقول لكم: ليس الشعر هنا، ولا الحرية هنا. هما معاً طفولة أبدية.

*عن المجاز؟

خدعة الشعر، لا الشعر.

*مَنْ طيرك؟

أنا هنا، في المكان وخارجه. طيري من شك، لا يحلق بالطمأنينة، لم يتدرب على اليقين. الذي فسَّرَ ليَ الأمرَ هو الصدمة وكِدْتُّ أسقط في فخ النجابة اللذيذ، أعني دجنة العطاء، غير أني نجوت بالحرمان. الأمر ببساطة، هو أن تخرج دون عود، إذ إن العود خيانة. أن تختار وُجهتك وتُحلِّق بعيداً. هناك فضاءاتٌ بِكرٌ علينا أن نخترقَها بأجنحةٍ جديدة، أجنحة شاهقة، أجنحة غير مجنحة.

*ماذا تُحاول؟

أُحاول إصلاح حذائي، لا العالم، لأقطع هذا الطريق الوعر والطويل.

*شاعر من السودان.

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني

زر الذهاب إلى الأعلى