طقوس الرحيل.. نافذة لاستكشاف عَالَم عباس عبود الروائي
إشارة:
الرابعة عصراً، وفي مكتبة المركز الثقافي الفرنسي، وجدتني غارقاً في الصفحات الأولى من كتاب (طقوس الرحيل) للكاتب الروائي عباس عبود؛ وكنت حينها أرغب بشدة في ولوج عوالم هذا الكاتب، حيث كانت تجمعني به قبلها حوارات (مشتَّتة) في (جوته) و(حليوة) ومساطب جريدة (الصحافة)، كانت تؤشر على حالة إبداعية يجب التعرف عليها عبر منتجها الأدبي. ومنذ الوهلة الأولى شدَّتني الرواية واستولت على تفكيري من بعد، حتى خرجت بهذه المحاولة التي أعتبرها قراءتي الخاصة لها وما تركته من أثر. كان ذلك في مطلع العام 2009. وذات صدفة ما، اليوم عثرت على هذه الوريقات، فكيف كنت أرى (طقوس الرحيل)؟ وما هي مداخلي إليها؟
العنوان:
بمثابة المفتاح، العتبة، الدرجة الأولى في سلّم النص، حيث يمكن اعتباره كأصغر (بنية صغرى) يمكن أن تعالجها قراءة متخصصة، ويمكن أخذ العنوان بدلالاته الكثيفة، المتدامجة والمحتملة بشكل يتيح مُمسكاً معقولاً لدخول النص. وكلما كان العنوان واسعاً وَهِيطاً – وهنا لا أقصد استقصاد الغموض بشكل فج وبلاستيكي – استطاع أن يفتح النص على تأويلات وذواكر تتيح الاستمتاع بجماليات النص. أو كما يقول رولان بارت (مجال للاستجابات الذاتية المتعددة). وهنا تمكّن الكاتب من اختيار عنوان مشحون بعناصر ومتفاعلات تغوص في مساحات اجتماعية وتاريخية متحولة، وترصد هذه الديناميكية وتعبِّر عنها بروح إبداعية عالية.
قريباً من النص:
يحوم النص حول فضاءات إثنوغرافية وجغرافية، ويصوِّر بمهارة تلك التحولات وكيفيتها /الرحيل/ وتشريح هذه التفاعلات المؤدية عبر حبكة محكمة تصل الآني بالتاريخي، والحديث بالقديم بمجهود فني رائع. إذ تغدو تلك القرية المُطلَّة على النيل الأبيض بكل حضورها التاريخي والثقافي والاجتماعي لوحةً تعكس أو تعبِّر عن (وطن)، يبحث عبر المسالك والطرق الشوكية عن موضعه اللائق استناداً على واقع تنوعه وعمقه الحضاري وأصالته، فتغدو /الطقوس/ ممارسةً حياتية تجسد الألفة والحميمية الاجتماعية التي يعِّبر عنها التواصل الخصيب المستمر بين أهل القرية وتجاوز الطبقي والإثني…الخ، وهو واقع يظل يحلم به الكاتب ويتم في إطار التخييل، أو بالأحرى (سردنة الرغبات) الإيجابية والمثمرة، وهو بالتأكيد أبعد مما نراه ماثلاً بين أعيننا الآن. إذ ليس بالضرورة أن نطالب النص بأن يكون كاميرا توثيقية، أو شاشة ترتسم عليها وقائع الحياة اليومية برتابتها وفجائعها المكرورة، بل الأجدر أن يخلق عالمه الموازي، الذي يحلم به ويتماهى معه ويمر على شقوق ومثالب الحياة السرية، القمع – الكبت – الاضطهاد بالأسلوب والطريقة التي يبتدرها الكاتب بروحه الخاصة، ويضفي عليها من نكهته ودموعه وهواجسه وشكوكه وتجربته (التخليقية). فالكتابة هنا في (طقوس الرحيل)، يمكن أن تكون في جانب منها توثيقاً أو شهادةً على عصر الديكتاتورية الثانية، بكل ما صاحبه من عسف وتجنٍّ وانكسارات وتحولات على مستوى الحياة السودانية، كما يشير زمن النص، مما لا يُنقص من قيمتها الفنية بزجِّها في رفِّ (التقريريات السردية).
تكنولوجيا السرد:
يأخذ السرد أسلوب التتابع أو ما يُسمَّى (السرد المتتابع) بلغة تودوروف، إذ يتعامل الكاتب مع الوقائع والأحداث بحيث يضعها في خط عمودي، أي حكاية تتبع حكاية أو تنبثق من داخل حكاية سابقة لها، وكل ذلك في مجري زمني مستقيم. هذا الأسلوب يكشف قدرة الكاتب على الأخذ بيد القارئ خطوة إثر أخرى دون أن يسقط في (ملل السرد)، وهذا ما نجح فيه كاتب النص، فتجد نفسك مشدوداً لمعرفة ما سيحدث، وكيف، ومتى.
رسم الشخصيات:
في عالم السرد – حسب ظني – يُعتبر خلق (الشخصيات الحية) هو ترمومتر الإبداع الأدبي ومقياس عظمته، فمن منا لم يشاهد الآنسة (بوفاري)، أو (أسرة كرامازوف) أو (مصطفى سعيد)، فيمكن أن تسمي ما تكتبه نثراً أو شعراً أو ما جادت به لك التسميات، ويمكن أن تضع كافة بهارات المطبخ العربي من صور ومجازات واستعارات وغيرها، ولكنك لا تستطيع أن تصف ما كتبت بأنه (رواية أو قصة) دون أن يرى القارئ شخصيات حية، من لحم ودم، شخصيات تفرض نفسها على ذاكرة القارئ وتعده بأن يراها في المستقبل. فماذا عن شخوص طقوس الرحيل؟
عاصم بدر الدين: نموذج غير نمطي للمثقف، مستقل، معتد بتفكيره الحر، يتخذ موقفاً نقديَّاً من الواقع والأيديولوجيا ما يورِّطه في صراعات مع السلطة.
طارق عبد المجيد: شخصية باهتة، (ظل متحرك) لعاصم بدر الدين صديقه، حيث ينتهي به المصير إلى فاجعة الاعتقال والاضطهاد والتعذيب.
مريم وندى: تمثلان الصورة النمطية للبنت الاعتيادية في شكلها الجامعي، التي تتمايز قليلاً عن من سواها بمشاركتها في التظاهرات والفعاليات العامة.
البلولة: شخصية متمردة، تظهر ضيقها وتبرمها من القوالب السلوكية الاجتماعية المتفق عليها (رفض الزواج – الإدمان الكحولي – كسر التابو)؛ إلا أن تمردها لا يرقى إلى مستوى (التجاوز) بخلق بدائل حياة أكثر إيجابية، وهي شخصية متوافرة في مجتمعنا.
الملاحظ في تلك الشخصيات أنها تلامس إمكانية نقاش فعال حولها وفيها باعتبارها شخصيات مفتوحة/ دالة على ما يمكن أن يكونه الواقع.
إضافات أخرى:
*القرية في واقعها الذي يبديه النص هي تجسيد لحالة الأصالة التاريخية والتمازج والتلاقح الثقافي مما يدعم فرضية كونها (سوداناً مصغراً).
*الأساطير والفنتازيا التي أشير إليها في النص وظفت ببراعة وأغنت الفكرة السردية مثل (الشيخ إسماعيل صاحب الربابة – بخيت التمساح) هذا من الناحية الفنية، أما على المستوى التحليلي، فإنها تعكس قابلية أهل القرية لتصديق الغرائبيات، وبذلك تشهد على تأثير الميثولوجيا على العقل الجمعي الأفريقي، بتلك الدرجة التي يستحيل معها وحتى في الدين الجديد، الفصل ما بين الوثني والسماوي، وهو ما يطبع إسلام السودانيِّين الصوفي بصورة عامة، ويجعله متمايزاً، بل ومختلفاً شكلاً وموضوعاً عن الإسلام المتَّبع عند المسلمين غير الأفارقة.
*اللغة المستخدمة في النص، تحتفل بكثافتها وأناقتها في صورها وإحالاتها الشاعرية (بمعقولية)، بمعنى، من دون أن تعوق دورها الرئيسي ووظيفتها السردية، إذ إن كثيراً من النصوص السردية السودانية الحديثة، تُغرق قارئها في (رقص الدوال التي تحيل على نفسها) بلغة إمبرتو إيكو، مما يجعل المفردة والعبارة السردية المكتنزة بشاعريتها وغناها الصوري والدلالي، تأخذ دور البطولة في ذهنية القارئ، وتُقصي ديناميكية وتقنيات السرد، مما يضعف النص.
*وظف الكاتب في (لوحاته) ومونولوجاته الأغاني السودانية بشكل رائع، مما أكسب النص ذاتية المكان.
*كاتب من السودان