ترجمة

مع هاروكي موراكامي

 

هاروكي موراكامي روائي ياباني من مواليد 1949م، لاقت أعماله نجاحاً باهرًا حيث تصدرت قوائم أفضل الكتب مبيعًا، سواء على الصعيد المحلي أو العالمي، وتُرجمت إلى أكثر من 50 لغة. حصل موراكامي أيضًا على عدة جوائز أدبية عالمية منها جائزة عالم الفنتازيا (2006) وجائزة فرانك أوكونور العالمية للقصة القصيرة (2006) وجائزة فرانز كافكا (2006) وجائزة جائزة القدس (2009).

من أبرز أعماله رواية مطاردة الخراف الجامحة (1982) والغابة النروجية (1987) وكافكا على الشاطئ (2002) وإيتشي كيو هاتشي يون (2009 – 2010).. يُعد موراكامي من أهم رموز أدب ما بعد الحداثة. كما وصفته مجلة الغارديان بأنه “أحد أعظم الروائيين في يومنا هذا” بسبب أعماله وإنجازاته. خص المترجم عز الدين محمد زين (الممر) هذا الحوار مع الكاتب حول ترجمته لكتاب (غاتسبي العظيم) إلى اللغة اليابانية لكاتبها الأمريكي فرنسيس سكوت فيتسجيرالد.                                                                                                            [المترجم]

ما المغزى من إنتاج نسخة جديدة مترجمة من رواية (غاتسبي العظيم) بعد مرور ثمانين عاماً على صدورها؟

عندما نقول بأن الرواية الكلاسيكية تستحق القراءة كما القصة المعاصرة، فهذا يعني أن طرق تفكير الشخصيات وسلوكها من المعاصرة بحيث أنها تكفينا لعالم اليوم. بكلماتٍ أُخر، إنها تستحق أن نتخيل بها أي مشهد لنسأل أنفسنا “لماذا قالتْ هذه الشخصية ما قالتْ؟” أو “لماذا فعلتْ ما فعلتْ؟” وهذا ما فعلته بالضبط حين ترجمتُ تلك الرواية.

إنها من الروايات النادرة. ما انفكتْ، بالطبع، (قصة جِنْجِي)* ومسرحيات شكسبير والتراجيديا اليونانية تثير ذات الأسئلة دافعةً إيانا للتفكير في معنى وأصل كل مشهد، كما لو أنها تحدث في حيواتنا- وهذا هو مِحك الحكايات المعاصرة الجيدة. هل لديها أي تأثير على القراء؟ طيب، هذا يعتمد على كل قارئ على حِدة.

 

هل توجد أي أرضية مشتركة بين عالم (فيتزجرالد) ويابان اليوم؟

النُضج واحدة من ثيمات فيتزجيرالد – نضج الفرد ونضج المجتمع. في عام 1920 بلغَ فيتزجرالد العشرين من عمره. كان زمناً مُميزا ًبالنسبة للمجتمع الأمريكي. كان تطابقاً وتزامناً تاماً بين عمره وعمر المجتمع؛ أمريكا تستمتع بازدهار اقتصادي غير مسبوق و(فيتزجرالد) الشاب يستمتع بالشهرة. وُلدت رواية (غاتسبي)، تقريباً، بنفسها إبان حُمى براءة تلك الأيام. لكن بغض النظر عن هذه الحقيقة، فإن الرواية في حد ذاتها لم تكن بريئة. فقد التقط (فيتزجرالد) بوضوح الجانب المظلم لِصَخب وهِياج زمن الازدهار.

كان لدى (فيتزجرالد)، عبر شخصية (نِك**)، إحساس مُنكّد بأن هناك شيء ما خطأٌ. كما أنه سعى إلى إمكانية النضج بتطور القصة لاحقاً. على أية حال، فقد ابتلعَ إغواء الأزمنة السعيدة هذا المَسعى وضاع دون أن يُثمر.

ثم جاءت ثلاثينيات القرن، عصر الكساد العظيم. عصراً مظلماً نقيضاً للعشرينيات الزاهية. حينها نضج (فيتزجرالد) ككاتب وأمريكا كمجتمع. كلاهما كان يستبطنُ الآخر. كان على كل منهما أن ينضج على طريقته.

أعتقد أن تلك السنوات قد تُطابق سنوات الفقاعة الاقتصادية اليابانية، انفجارها والعِقد الضائع الذي أعقبها. أعتقد أن المجتمع الياباني قد بلغ مستوىً جديداً من النضج باجتيازه لتلك المرحلة. (أو هذا ما أريد أن أؤمن به). لهذا السبب فالآن هو الوقت المناسب بالضبط لليابانيين لقراءة (غاتسبي العظيم)، حيث ستبدو، بطريقةٍ ما، أكثر واقعية بالنسبة لهم.

قلتَ بأنك انجذبت إلى (فيتزجرالد) عن طريق القَدَر. هلاّ أوضحتَ هذا التعليق؟

من الصعب شرحه في كلمات. لكن من السهل فهمه عندما تفكر به كمصادفة بين شخصين أكثر منه كمصادفة بين شخص ورواية. نلتقي بالكثير من الناس في حيواتنا، بعض هذه اللقاءات مصادفات قدرية. هكذا مصادفات بإمكانها، أحياناً، تغيير حياتك تماماً وفتح أبواب جديدة وإغلاق أخرى. تشعر أحياناً أن كيانك كله قد اختلف بالكامل عما كان عليه قبل أن تحدث.

هكذا كانت طبيعة مصادفتي لـ(غاتسبي العظيم).

كونك روائياً ترجمت الرواية. هل تنظر إليها الآن بطريقة أخرى؟

لقد جَددتْ اهتمامي بتعقيد وحذاقة هذه الرواية. كل سطر وكل مقطع له معنى ًعميق.وكلٌ في ارتباطٍ عضوي.

عندما أواصل، عادةً، قراءة نفس الرواية على مدى عقود، تصبح بعض الأجزاء شفافةً نوعاً ما. لكنها ليست الحالة مع هذه الرواية؛ فبدلاً من أن تَتَضِحْ تراها تصبح أعمق فأعمق. بعد انتهاء الترجمة، شعرت بصدق أنني رأيتها بضوءٍ جديد.

نحن جد مشغولون بمطاردة السرعة والفعالية في حيواتنا اليومية لدرجة أننا نَنْزعُ إلى أن نَنْسى قيمنا العميقة. نميلُ إلى الكسل حين يقتضي الصبر ونركز أنظارنا على الشيء الذي نستطيع فقط أن نبدأ برؤيته مع الزمن. بهذا المعنى. فإن (غاتسبي)، بالنسبة لي، كالمِرساة. وستبقى كذلك.

أثمة واحدة من رواياتك ما كنتَ لتكتبها لو لم تكن قد قرأتَ (غاتسبي)؟

لا أعلم. لكن بُؤرة السرد في رواياتي كانت لتختلف عمَّا هي عليه. قسَّم (فيتزجرالد) بؤرة السرد في هذه الرواية إلى ثلاث شخصيات (غاتسبي) البطل، (نِك) السارد و(توم) المُنافس. كان وصف الثلاث شخصيات مذهلاً. هذا ما ينبغى على كل رواية أن تكشفه.

هل تُماثلُ أيٍّ من رواياتك (غاتسبي)؟

لا. ربما سأكتبُ واحدةً في المستقبل، مع ذلك. عليّ بعدُ أن أصادف من لديه نفس وجهة نظري حول الرواية. إذن فقد عَنَتْ لي هذه الرواية أو ضَمّنت، منذ وقت طويل، نوعاً من السر أو الوَحْدة.

كتبت في كتاب (سكوت فيتزجرالد) أن (فيتزجرالد) روائي نموذجي. ماذا تعني بالضبط؟ أشرتَ أيضاً في كتاب (موراكامي أشايدو) إلى أن حياة (هايهو)** الخاصة لم تكن حقاً طبيعية. حياتك هي العكس. أليس كذلك؟

لا تستطيع أن تطبق قوانين أو معايير على الحياة الخاصة للناس العباقرة. تستطيع أن تطبقها على غير العباقرة فقط. الشيء الوحيد الذي يجوز التعليق عليه عندما نتحدث عن العباقرة هو إنتاج عبقريتهم. مسموح للعبقري أن يعيش أي نوع حياة وأن يفعل أي شيء من الأشياء السيئة (من وجهة نظر فنية، طبعاً). ليس مهماً أن يخَرِّبَ حياته أو يموت شاباً طالما أنه يترك عملاً رائعاً لأجيال المستقبل. لأجل هذا وُجِدَ العباقرة. استغل (فيتزجرالد) موهبته ليترك خلفه أعمالاً رائعة. أنا مفتون بشخصياتها الطبيعية والنبيلة.

إنه نموذجي كروائي. وسيبقي كذلك. لسوء الحظ (أو لحسنه) أنا لست عبقرياً، لذا لا أستطيع أن أعيش دون أن أتحكم في مختلف أبعاد حياتي الشخصية.

حين توفي (فيتزجرالد)، كنت قد تجاوزت الرابعة والأربعين من عمرك. ألم يظهر لك أي روائيين نموذجيين آخرين؟

لا يهم إن تجاوزت عصر (فيتزجرالد). فقد كانت رواياته وستبقلا نماذجاً لي. لكن. لو تسألني عن هدفي، أود أن أقول أنه روائي القرن التاسع عشر، الروسي (فيودور دوستوفسكي). ربما أبدو طموحاً جداً. لكن أظن أنه من الأفضل أن تضع لنفسك أهدافاً أعلى.

لم يذهب أحد أبعد من المدى العميق والشامل لقصصه التي أبدعها في سنينه الأخيرة.

تماماً، كـ(جي غاتسبي) محدقاً في ضوءٍ أخضر بعيد على الضفة الأخرى من النهر، سأواصل التحديق في أكوان سردية مُشابِهة.

الهوامش:

* من كلاسيكيات الأدب الياباني. يرجح أن السيدة (موراساكي) قد كتبتها في الفترة بين 1000 و1012 ميلادية.

** شخصية تحدث عنها هاروكي موراكامي في كتابه (موراكامي أشايدو). لم أعثر لها علي خبر.

* مترجم من السودان

ترجمة: معز الزين

كاتب ومترجم من السودان
زر الذهاب إلى الأعلى