تلك العتمة الهادئة
ركبت المواصلات وأعطيت الكمساري أجرته ، وكنت أقرأ مقالات فكرية وحاولت أن أبني بيتاً من الشعر لكني فشلت ،ثم رفعت يدي وأحدثت فرقعة بأصابعي فتوقفت الحافلة ونزلت . لكن حتى بعد نزولي منها لم تتحرك الحافلة ، وظننت أنني ربما نسيت شيئاً لكني لم أنسى شيء . وقلت ربما الحافلة توقفت لأنني سبب لكنها لم تتوقف من أجل شيء يتعلق بي أو يخصني ،عندما ابتعدت قليلاً رأيت رجال ينهضون ويصدرون أصواتاً فعلمت أن شجاراً ما حدث فواصلت المشي إلى المنزل. عندما أدخلت يدي إلى جيبي لم أجد هاتفي ، شعرت بالذعر والتفت إلى حيث كانت الحافلة تقف ووجدتها بدأت تتحرك ،ركضت خلفها بقوة لكني لم الحقها بعد.
ثم انتبهت أنني ركضت مسافة طويلة من غير أن أشعر بالتعب ،شعرت أنني خفيف مثل الريشة وشعرت بالسعادة ؛لأني سأصل إلى الحافلة وسأحصل على هاتفي وبعدها أتباهى بقدرتي الغريبة التي ظهرت للتو وهي الركض لمسافة طويلة من غير أن أفقد لياقتي البدنية ، وبمثل هذه القوة سأكتب روايات طويلة مثل موراكامي .كانت الحافلة مثل كل المركبات العامة تتوقف باستمرار ولهذا كانت المسافة التي بيننا تصبح أقصر .رأيت من بعيد الحافلة تقف لتنزل امرأه سمينة سوداء أنا أعرفها فهي تبيع الكسرة والشرموط والدكوة ومسحوق الويكة في السوق ،ودائماً ما أشعر تجاهها بالإعجاب من قوة شكيمتها وعصاميتها .
مررت بها وأنا أجري وراء الحافلة التي كانت قد بدأت تواصل السير وكانت تبكي ، الدموع ملأت خديها الكبيرين ، شعرت بالخوف فربما حدثت مشكلة أعظم من مشكلة ضياع هاتفي في الحافلة ، لعلي لن أجده فربما وجده شخص خائن وأغلقه ووضعه في جيبه فهاتفي سعره هذه الأيام ألف جنيه . تراخيت قليلاً ولم أعد أجري بسرعة وبدلاً من ذلك انتظرت حافلة أركبها حتى أصل لنهاية المحطة والتي أصبحت قريبة .
ركبت شماعة مع كمساري حافلة أخر والذي كان شهماً ولم يطالبني بأجرة ؛ لأن نهاية المحطة أصبحت قريبة جداً ، كان الكمساري طفلاً صغيراً لا يزال يملك براءة الأطفال ، كان عندي شعور ملح أن أنصحه أن يتمسك جيداً حتى لا يسقط لكني لم أستجب لهذا الشعور . عندما وصلت إلى المحطة الاخيرة رأيت بعض الرجال ينظرون إلى الحافلة بذهول ،وكأن شيئاً خطيراً بداخلها ! وعندما سمعت حديث الناس علمت أن أحد الركاب قد مات على مقعده بشكل يبدو طبيعياً .
اقترح أحدهم أن يتصلوا بأهله ، فرد عليه الكمساري أن هاتف المرحوم مغلق بكلمة سر لهذا لا أحد يستطيع أن يفتح الهاتف ليتصل بأحد يعرفه ، سائق الحافلة وكان يبدو رجل قليل الكلام قال للكمساري : أذهب بالهاتف إلى الكشك يبدو أنه بحاجة إلى شحن ، وأخبر عماد- صاحب الكشك- أنه لو رن الهاتف فليرد عليه ويقول أن صحاب هذا الهاتف قد مات وهو الان في محطة صريو .
وسأل أحدهم السائق : الأن ما العمل ؟
– لقد اتصلنا بالشرطة وهي في الطريق .
ثم رأى شباب صغار يقتربون من الحافلة ليشبعوا فضولهم ،فنهرهم وأبعدهم ، ثم قال طفل صغير وكان مشاغبا : دعنا نراه ربما شخص نعرفه ، ووجدها السائق فكرة جيدة ففتح الحافلة وترك الناس يرونه لعله أحد يعرفونه ،كل من كان في المحطة ذهب ليرى المرحوم ليطمئن أنه ليس أحد يعرفه قد مات وهو في طريقه للبيت ، بل هناك نساء يأتين باكيات قبل أن يرين المرحوم وبعد أن يرونه يتوقفن عن البكاء ثم يبدأنه من جديد يثير حزنهن أن رجلا مات وهو غريب عن اهله وداره .
أصبح بالقرب من الحافلة نساء يبكين ورجال واقفون يتفرجون، بعضهم رأى وجه المرحوم وبعضهم ينتظر دوره في رؤيته ،المرحوم ممدد على “كنبة شكراً ” ينتظر من يتعرف عليه داخل الحافلة رأيت فلاشات الهواتف تلمع وتضيء المكان ، إنهم يصورون وجه الميت ،شعرت بالحزن من أجله ستنتشر صورته انتشار النار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي في انتظار أحد يتعرف عليه .
بدأ سكان البيوت التي بجوار المحطة بتوزيع الماء البارد على الناس الذين يقفون حول الحافلة وبجوارها . من يأتي للتو يكتفي برؤية صورة الميت ،وأنا لم أرغب في رؤية صورته احتراماً له ولأني لست من من يتأثرون بما يتأثر به عامة الناس .
صاح عماد : التلفون دقاااا! وانتبهت أنه كان هناك خلق كثير ينتظرون أن يرن هاتف المرحوم وعندما رن فتح عماد السماعة الخارجية ،وسمعوا جميعا صوت فتاة تقول : ألو ،وصلت طيب ؟ ثم أخبرها عماد بالخبر الحزين وبدأت الفتاة تبكي ، وأنا لم أسمع إلا صوت بكائها كان بكاء حزيناً ولذيذاً مثل بسكويت ويفر هش . بدأت تسال كيف ومتى مات ؟ وعندما أخبروها . سألوها من أنت بالنسبة للمرحوم فأخبرتهم انها صديقة له ، سألوها إن كانت تملك هاتف أبيه أو أحد إخوته فقالت : إنها لا تملك إلا رقم هاتفه.
أغلق عماد الهاتف ونظر إلى الناس والعرق يقطر من جبينه وأمرهم أن يبتعدوا من أمام باب الكشك من أجل الهواء ، ومرة أخرى رن جرس المرحوم وهذه المرة استقبل عماد صديقاً له يبدو أن صديقته أخبرته بموت صديقه وبدأ أنه بدأ يسأل عماد عن عنوان المكان . ثم قال إنه قادم .
على رغم أنني كنت في مكان بعيداً عن الكشك فإنني كنت أعرف ما يحدث فيه بالضبط ،عرفت ما قالته صديقة المرحوم وسمعت عن أن صوتها جميل حتى بكائها وجده البعض شجياً ، وسمعت ما قاله صديقه وكيف أنه كان قبل ساعة يتناول معه القهوة في العربي ، إنه مشهد يشبه القيامة مئات الرجال والنساء تحلقوا حول الحافلة وفي المكان ، وعندما يرون حافلة قادمة ينظرون إليها بصمت يشوبه بكاء بعض الأطفال لعل فيها صديق المرحوم .
لقد ضاع هاتفي ذاب مثل ملح في الماء ، وبدأت أفكر في العودة إلى البيت وعدم الانجرار وراء ما يحدث ،لكن حتى سائقو الحافلات الذين يفترض بهم أن يتحركوا أبو إلا أن يبقوا حتى يعرفوا ما سوف يحدث .
لقد علقت في هذا الحدث الجماهيري الهام ،وأصبحت جزء من العقل الجمعي ،أعترف بدأت أنتظر صديق المرحوم وكأنه إجابة لأحد الأسئلة الكبرى ! وصلت سيارة صالون ونزل منها أربعة شبان ، أفسح لهم الناس الطريق صعدوا إلى الحافلة وعندما نزلوا كانوا يبكون ، هنا الجميع أخذ يعزيهم ، وعندما اقتربت منهم عرفتهم ؛ كلهم أصدقاء لي، حتى الأن لم أرى المرحوم ربما هو أحد أعرفه ،وقلبي يدق بعنف صعدت إلى الحافلة ، كم كان مخيفا رؤية نفسي مستلقيا بهدوء في تلك العتمة الهادئة .
* قاص من السودان