على السجّية
دائماً أنتظر الليل على أحرّ من الجمر، دائماً الليل يعني لي الكثير. حلّ أخيراً فخرجت وتنفست الصعداء. دندنت وتمهلت، سرت على أقلّ من مهلي. بلغت نهاية العمران، وككل ليلة وقفت ووجهي إلى البيوت المتساندة أتتبع رعشات الأضواء البعيدة في الظلام. من هذا المكان أرى ما يراه شخصٌ على سطح سفينة توشك على الغرق، ما من سبيل إلى اليابسة غير البعيدة، أو ربما أرى وأحسّ ما يحسّه شخصٌ ينتصب على الساحل مُشرفاً على البحر الغاصّ بأفلاك تتلاشى وأنوارها تنطفئ رويداً، رويدا. هناك هذا دائماً، وفي الأحوال جميعها تصل استغاثات، لا أدري أهي قادمة من البحر، أم من الساحل، أم من غريق يُقيم فيّ.
أوليت ظهري للعمران وابتدأت رحلتي. لن أصطدم بأحد ولن تقصيني يدُّ غليظةُ بحُجة عرقلة ذلك التدفق الأرعن وغير المُنتهي. ما من بِركٍ أو كلاب، ليس ثمّة سوى الصمت والنجوم، وأنا أتوغل في الفراغ إلى أبعد مدى. ألتفت فأرى الأنوار شفافة ووديعة والعمران كأم رؤوم، قليل القسوة، غامر الحنان وعلى السجية أنطلق بلا رقيب أو حسيب. فعلت أول ما خطرَ بذهني فخاطبت شخصاًً قريباً وعزيزاً إلى نفسي لا أدري أين ألقت به الحياة الآن، ثم رفعت عقيرتي بالغناء وتحوّلتُ إلى الشِجار والتلويح بقبضتي، فأحدهم داس على قدمي صباح اليوم في الباص وعندما نبّهته كاد يحطم فكي، ومشيت الهوينى، لا أقوم بجهدٍ كبير ولا أثير حفيظة أحد.
ابتدأ هذا كله منذ فترة من الزمن. كنت في طريقي إلى النوم مرة فخطر لي أنني قد أدخل الدار فلا أخرج في الصباح التالي، أو أن أتأخر في الخروج محمولاً على العنقريب العتيد. اقشعرّت أطرافي ووقف شعر جِلدي، تجمدت يدي على الأكرة. تذكرت حمدان وكيف مات. أطلّ وجه صفية الذي محقه المرض، أتانا خبر موتها في الظهيرة الغارقة في الغبار؛ ماتت في المكتب المجاور وشبعت موتاً ونحن وسط الدواليب الرمادية ومناضد الكتابة البرصاء والملفات. حمدان مات، صفية ماتت، موتى يموتون، راحوا وهم يغدون ويروحون إلى العمل، ماتوا في المكاتب الواطئة محاصرين بالعناكب والأرضة، راحوا، الأرضة أكلت أعمارهم وعافيتهم.
انزلقت يدي عن الأكرة، وتسكَّعت هنا وهناك وصدري يضجُّ بالضيق وبالخوف. تذكرت أنني لم أتحدث مع شخص ما منذ زمن، فطفقت أحدّث نفسي بصوتٍ عالٍ. لم تكن حولي أشياء كثيرة، لكن قلت لها إن الأغنية المُنبعِثة من راديو قريب تنساب جميلة. دنوت والتصقت بالجدار الذي خلفه الأغنية. في صوت المغني شجن وفيه كُوّةٌ يرتعش خلفها نورٌ خافت، وقبل أن أطل خرج رجل رآني التصق بالجدار فاتجه صوبي فابتعدت. لم أنتظره ولم آبه. ولمَ انتظر وقد خرجت لأكون على السجية. لا نظرات قاسية تُحدِّق بي ولا اكتظاظ لا أول له ولا آخر. على السجية يعني على السجية. طيلة يومي، بل طيلة عمري وأنا مهدود ومهدد، تجدني وسط الزحام أطلب الشرق فأجد نفسي في الغرب بإرادة من ذلك التدفق الحاسم الذي لا يأبه للوِجهة التي يطلبها الواحد، بل الوجهة التي يفرضها، فلم يعد لديّ ما أفعله بمحض إرادتي، لأن كل حركة يقف خلفها أمرٌ صارم وسلاح خفي أحس به مُسلّطاً على العنق.
لم يحدث أنني عدتُ سالماً وغانماً إلى الدار، لم أنم يوماً قرير العين، جروحٌ وخدوش تنوء بها الروح، والأدهى والأمرّ، ذلك التهديد البارد وحركة النصل البطيئة والثابتة المُتجهة صوب الفلذة، كيف لي أن أحتمل كل هذا وأواجهه وأنا أقضي أيامي في الذهاب وفي الإياب على هذا النحو المُتخبِّط؟
البنايات العالية تريد مني أن أبدو صغيراً وضائعاً، فأبدو صغيراً وضائعاً، وأزيد من عندي: فأبدو مسكيناً صاغراً خائفاً. الحركة العجول في الشوارع وفي كل مكان تدفعني لأكون عجولاً مشتتاً، فأبدو كذلك. رئيسي في العمل يحبُّ أن أهابه وأتجنبه وأظل تحت رحمته، فأهابه وأتجنبه وأكاد أركع له. كل ما طلبوه وأحبوه وأرادوه أفعله وزيادة، وأتحرك وحولي زنزانة كُوّتها مُسيّجة بالحديد الصلب، تهب منها الرياح باردة، وهي تقول: هم وغم، غم وهم غم هم، همغم، غمهم، هم غم هم غم هم غم هم غم هم غم هم غم هم غم هم غم. وفي اليوم الذي انزلقت فيه يدي عن الأكرة أخذت أتسكع وأنا مهموم ومغموم. سرعان ما تشرق الشمس وتبدأ رحلة كل يوم. قلت “لن أذهب إلى العمل” بصوت عالٍ، ولوّحت بقبضتي في الهواء وبصقت وسببت بصوت أعلى، فنبح كلب رابض أسفل جدارٍ، غنيت بل وصفقت، ففرحت وانشرحت. جلوت عني الصدأ. غنيت وغنيت سعيداً بصوتي وقد انطلق من أسره وطغى على مرثية الرياح الباردة الأبدية.
منذ تلك الليلة، اهتديتُ إلى الحلول الفردية التي من شأنها التخفيف من ثقل الحياة التي أعيشها ومن بؤسها. أتحدّثُ مع نفسي بصوتٍ مسموع وأطلق عقيرتي بالغناء لقطع الطريق على مناحة الكوة السوداء. واستعنت بالسباب للتنفيس عن الكرب العظيم المقيم، والتلويح بقبضتي للتهديد والوعيد. أهدد من وأتوعّد من؟ غير مهم، المهم أن الفرصة قد لاحت، أفأضيعها؟! بت أنتظر الليل بفارغ الصبر، وما إن يحلُّ، حتى أخرج وفي جُعبَتي كنزُ أغنياتٍ وسباب وبرطمة ورغبة في الانطلاق على السجية لا يُقدّر بثمن. في النهار أفعل كل ما يطلبه النهار، أما الليل، فهو الليل، أما الليل فهو لي. أتريّث كل يوم في الطريق إلى الليل، فألقي نظرة احتقار على النهار المُحتضِر وأقول له متشفياً: “تستاهل”، وأنطلق خفيفاً كالريشة. أدندن مرة، وألعن مرة وفي مرة سمحت لخطواتي أن تتوازن مُتتبعةً إيقاعاً خفياً، فكانت رقصة. مبسوط أربعة وعشرين قيراط وليس كمثلي بشر. أين هم الآن بإسفلتهم الغبي وبناياتهم الحمقاء؟ أتحداهم وأتحدى أبوهم. إذا ما ظهروا فسأعرف كيف أحدّ من تدفقهم الأعمى الشرس. سألفت انتباههم إلى كل صغيرٍ مسالمٍ لا يأبهون له، إلى كل ما يعفصونه ويدهسونه ويتعمدون تجاوزه، سأُسكِتهم على بكرة أبيهم، فتلسعهم الضمائر ويتذكرون كلّ ما أخذه منهم الاكتظاظ والتزاحم، ما سقط سهواً وهم يتدفقون على ذلك النحو.
ذات مرة ارتفع صوتي بالسباب في شارع لم يخفّ زحامه بعد، فألتفت شخصان فلوحت بقبضتي في الهواء فرفع واحدُ حاجبيه. أطلقت عقيرتي بالغناء فتوقف بعض العابرين، وطيلة رحلتي في شوارع الليل التي سيمحوها النهار كان هناك من يضرب كفاً بكف ومن يهزّ رأسه استغراباً واستهجاناً وأناس يقطعون مشوارهم لبرهة من الزمن ليتفرجوا ويبتسموا. وبعد يومين سألني جارٌ قريب إن كنت أُعاني من مشكلة ما، فلم أنطق. تحدّث طويلاً وقال إن الحياة صعبة فعلاً وإن الجميع متشبثون بقشة الصبر وطلب مني أن أصارحه وأفتح له قلبي فربما يساعدني، فلما ظللت ساكتاً ودعني بنظرةٍ غريبة. ما هذا؟ من قال لهم إنني مجنون؟ هل بدأ النهار في التسلل إلى الليل بعتاده الثقيل الذي يعرف جيداً كيف يسحق ويمحق؟ هذه سجيتي وقد أطلقتها من عقالها فما لكم أنتم؟
وخرجت ذات ليلة فأحسست بعيون تترصدني، فهربت إلى أزقةٍ مُقفرة لكن السجية وعت أنها مُراقَبة ومرصودة وأن هدنة الأزقة المقفرة ضربٌ من الشِراك ففي أقلّ من لَمح البصر سيهجم عليها من لا عمل له سوى تتبُع السكنات والحركات، ويتربص بها الدوائر، ويتحين الفُرص ليطبق عليها بالعقال كالبعير، فانكمشت وتوارت في الزنزانة. ناديتها، استعطفتها، استحلفتها، تضرعت وقلت لها إنها آخر ما بقي لي في الدنيا وإنها إذا انتهت انتهيت أنا، فلم تصدر عنها نأمة. يا الله! هل ماتت؟ أين الدندنة والهسهسة ورائحة الليمون؟
عُدت مهموماً ومغموماً والأسى ظلي، هل هذا كل نصيبي؟ حتى السجية يُقطع الطريق عليها فلا يجد المرء ما يفعله أو يستعين به ليهرب من كل تلك الصرامات. وهل على المرءِ فعل شيءٍ في عَالمٍ كهذا؟ هكذا هي هذه التي يسمونها الحياة فما العمل وأين المفرّ. بتّ آوي إلى الفراش باكراً ولا أنام وأظلُّ طيلة الليل أخططُ للفرار والطششان حيث لا أُطال. منطقة جبلية مهجورة. جزيرة معزولة في قعر العالم. وبينما كنت غارقاً في التفكير والتخطيط ذات مرةٍ هتف بي هاتف: “الفَسحة، الفسحة في الطرف البعيد، عليك بها عليك، ما من بشر وما من بيوت ولا ثمة عنكبوت”.
ومنذ ذلك الهتاف اهتديت إلى الفسحة، وفرحت وانشرحت. فسحة واسعة ينتهي عندها العمران وتنطلق منها السجية إلى أعماق الليل. وبفضل الفسحة عدت إلى كل تلك الحركات التي لا أستطيع القيام بها في النهار أو وسط الزحام، وزدت عليها الكثير. في الفسحات الفسيحة تفسحت تَفسُّحاً على السجية والعالم رهن الإشارة هنا، ما أبعدني عن أوكار الأبالسة. تلك الأوكار التي تستدرجنا إليها الشوارع المتداخلة والأزقة المتشابكة وتدفق التدفق المُتدفق. أقفز في الهواء ثُمّ أُغيِّر اتجاهي دونما سبب واضح لأقف بلا حِراك المدة التي أشاء فلا أجد من يحدّق بي، ولا يحاسبني أحد، ولا تُستدعى الشُرطة للقبض عليّ. على السجية فلا الدندنة مصدر إزعاج ولا مخاطبة الأشباح غير المرئية نوعٌ من الجنون. مارست القفز العالي والركض مسافات طويلة وقصيرة والانبطاح والتدحرُج والهرولة، كما لاكمت جميع الغلاظ الشداد الذين يطبقون على كل سجية تتوق للانطلاق، فدحرتهم وشتّت شملهم، أصدرت أصواتاً كالعواء وزأرت نكاية بالنهار وما يعجّ به من أصوات وأمور بغيضة أكثر صفاقة ووقاحة من كل ما قد أقترفه هنا. في الليالي المُقمِرة أتخاطب والقمر، وفي غيابه أغني للنجوم، أطربها صوتي الأجشّ فأنا ضيف حديقة الليل، غافلت الحُراس وولجت من الباب المُحرَّم.
وعلى هذا النحو سارت الأمور، لم يَعدْ شبح الموت إلى مطاردتي واستغرقت في اللعبة، فكأن الدنيا خلت من شوارع الإسفلت والبِنايات القبيحة ورؤساء العمل والمحطات المُكتظة والنهار الأصلع. ومر الزمن فتخليت عن الركض والقفز وبت أتجوّل بخطوات قصيرةٍ وقورة وأغني، استنفدت كل ما أعرفه من أُغنيات فانتقلت إلى التأليف والتلحين، فتمايلت الكواكب طرباً وهي تُنصت إلى أعمالي، وشالت معي، وصفقت لي، ولم يحدث أن صادفني أحد، ومن يصادفني والجميع منهمكون كل ذلك الانهماك في التدافع والتدفق، لا أحد يريد التخلف عن الركب، يتدافعون كأنما في انتظارهم جائزة ثمينة أو خاتم سليمان، تباً، كفاية عليّ منصبي الذي لم يُقلدني إياه أحد، أميناً لسرّ الليل، أسرّي عن الموتى وحشة القبر وأهنئهم على رحلتهم التي نأت بهم عن وحشية الحياة.
وذات يومٍ ودّعت العمران على طريق البحر والساحل، وانطلقت صوب الطرف البعيد. أمضيت الوقت في التسكع باطمئنان، وبينما أنا هائمُ على وجهي سارح الفِكر، تعثرت قدمي بكوم صلب لم أنتبه إليه وأنا مستغرق في الدندنة، ويا لصلابة ما به اصطدمت. وجدتني قبالة أكوام من السيخ والأسمنت وهي تسدّ الأفق، قاسية مثل قاطع طريق عزم على تجريدي من كل ما أملك. بعينين تدربتا على النظر في الظلام وألفتاه رأيت خيمة حراسة منصوبة في قلب الخلاء الذي كنت أخاله شاسعاً. غير بعيد عن السيخ تكوم الخرصان والطوب وجبال من أكياس الأسمنت. سيُنشئون البنايات إذن. ابتعدت وتبيّنت خياماً مُبعثرة هنا وهناك حولها السيخ والأسمنت، وبجوفها من يلغطون ويُعدّون الشاي. سيتمُّ تجريدي مما أملك وما لا أملك وما حلمت أن أملك. هنا سرعان ما ستنشأ شوارع تجري فيها العربات التي ستعبر ظلال البنايات وهي تسد الأفق ويتدفق الناس إلى الأوكار.
والآن ما العمل؟ انتابني دوارٌ فمشيت. سأمشي وأمشي حتى أبلغ مكاناً لا يُطال. غير معقول أن يخلو هذا الكوكب من متر مربع تنطلق فيه السجية على سجيتها!
* كاتب من السودان
tahaghallap@yahoo.com