ثمار

مؤانسة صباحية مع كناني

بابكر وسيلة

الشعر زهرة الأرض الكبرى، التي تتفتح كل ما اقترب الإنسان من الإنسان، ومن معنى وجوده فيها. الشعر لغة الأسرار، لغة واضحة لا لبس فيها ولا وضوح، لغة تتوسل المعنى بتعابير لا حدَّ لها من المجاز. الشعر ما لا يعرف إلا بالشعر. نحب ونود أن نقول كلمتنا الأولى ونتوسل الشعر. نحيا ونريد أن نحيا، كما يريد المعنى الوجودي المحض، فنتوسل الشعر. نموت وكل يريد أن يموت بطريقة تؤدي إلى حياة أخرى، فنتوسل الشعر. الشعر مستقبل الإنسانية، إذا أردت أن تكون إنساناً  فاعلاً جميلاً جديراً بالحياة.
هكذا بدأت صباحي في قراءة هذه الجمل حول معنى الشعر، الذي لا معنى لتلمس معناه خارج عبارة الروح المضيئة. لا أتذكر متى كتبت هذه الجمل، ولا لماذا، ولا كيف. لكنها والحق يضيء، قد بذرت فيَّ لحظة شوق لقراءة الشعر، أي شعر. فتحسست مكتبتي فإذا بـ(الينابيع تغسل أوزارها بيديكِ)، بيديك أيّها الشعر.
كم هي لحظة نادرة، لحظة التقائك بالشعر، كتابةً وقراءةً. لحظة وجودية خالصة لوجه الروح. حاتم الكناني، إذاً، تفضل أيّها الشاعر، لئلَّا يبرد فنجان قهوتك أمام القصيدة:
الحياة مراوغة
كصداعٍ خفيفٍ خفيف
سأعبِّئ ما تبقَّى منها
بمصادفةٍ وهواجسَ غيرَ مدرَّبةٍ للقائِكِ
ستطلِّين
ليسَ مِن أفقِ نافذةٍ أو سماء
ليسَ مِن سطحِ مرآتكِ المجهدة
ستطلِّين كما ينبغي لَكِ
حينَ لمْ يكنِ الوقتُ شيئاً
في كتابِ العدم.
يا للمصادفة! لا، ليس مصادفة أن تلتقي بالكلام الذي تجهد روحك بالبحث عنه، تلتقيه أو بالأحرى تتلقاه كصفعة لذيذة الألم،  كموجة طائشة، وأنت تتأمل الأبدية غارقة في نهر الحياة الخالد. يخرج الشعر كصدفة تتعمدها، حين تريد أن تقتنص لذة وجودية من قبلة شيء عارٍ تماماً كأكذوبة. وربما لهذا  كله، يحلم العاشقون سريعاً ويمضون يحترقون على شفا لمحة من أثر النبوة.
أيّتها القهوة، خذي بروحي نحو حديقة الشعراء. هناك اقتنصت دفقته العزيزة، وملأت وجداني بعشر ملهمات لقصيدة واحدة. ما الذي يؤهل الشعر أن يكون شعراً غير مثل هذه العبارات:
_ الفاكهة لا تقاس إلا بفتنتها
ولا تؤكل إلا بعري.
_ اقطفي  وردة منك
واحتفي بالذي يتقطر
من ساق المطر
ومن بروق الاعتذار.
_ الموت
هو الميزان الأوفى
للأحياء.
_ تركتِ الغناء يتدلى وذهبت
من فرط اللغة / اقتبستكِ
من فرط الاقتباس
تجمهرتْ الأحذية
ولعنتْ رحيلي.
سألته بين مؤانستنا هذه، وهو الغائب بحضور شعره في اللحظة هذه.
هل أنت صوفيٌّ؟ قال:
وفي ليل الصحراء سجدتُ
سكبتُ صلاتي في كأسي
وسكرتُ بها سبعين صلاةً    
تهتُ وما استغفرتُ من الأحلامِ
وما أسداني خيط الفجر النابئ
عتقاً من دروشتي.
وما اللغة؟ لغة الشعر طبعاً؟
قال: الجسد يشير إلى الله
وقال: وكما تعزف النار
مقطوعة الرماد
لنفسها فقط
تلبس اللغة
أعضاء جسمها
وتموت
كلما تحيا
كالقصيدة لا تتجمل بشيء
قلت له: وكيف تجيء القصيدة؟
قال: لا أضيف سوى احتراقي    
الداخلي
إلى الكتابة
لا أفكر كيف أبدأ
كيف أُنهي هذه
الورطة في ذهني.
كانت، حين مؤانستنا، ثمة وردة تنمو على ساعد النهر
سيرتها: دمي المتبعثر في الأرض
وجهها: غربة وعناق حميم.
ليس من العادة أن يأتي الأصدقاء صباحاً إلى بيتك، بين فناجين القهوة. إنّها (قهوة الصباح)، شيء يخصك. يخص نكهة نفسك مع جسدك وروحك، لكنَّهم رغم ذلك تسللوا إليك. جاؤوا بما لديهم فرحين. الحلاج بجبته. المتنبي بفرسه الذي تركه خارج القصيدة ودخل عليها. الله بقرآنه الأبدي، محمود درويش بريتاه. جاء الصادق الرضي بمتاهة سلطانه والكناني بينابيعه.
سمعت الكناني يقول لمحمود درويش: اسمح لي أن تكون في قصيدتي ضيفاً عابراً. ضحك درويش حتى بلل رذاذ حروفه قصيدة الكناني. والحق يضيء، أنني كلما تمعَّنت في قصيدته لم أجد إلا محمود درويشه (الكناني) وليس محمود درويش، بينابيع لغته في جسد القصيدة العربية. وللكناني درويشه الذي يخصه. أما الكناني، فقال:
وما أسداني خيط الفجر النابئ عتقا من دروشتي.
تهاجر النصوص وتنتقل مثل نحل لا فضاء له، متى ما وجد زهرته الروحية، حط وبدأ التعسيل. وربما لهذا يخرج من بطون القصائد شراب مختلف ألوانه.
قال المتنبي: احذروا أن تقولوا عليَّ قديماً. فالقديم لا يبقى قديما خالصاً، إلا في عيون القدماء. قال له الصادق الرضي: أنت حاضر بيننا بحداثة أكثر حداثة من موجة تضرب الآن شاطئ النيل. ابتسم المتنبي وقال له: اسألوا دائماً “المعنى”. فإنه شائك وسهل، وليس هنالك من سبيل إلى خلقه في القصيدة، إلا من الموقف الشعري من الوجود. تدخل درويش وقال: (يجب على الشعر أن يصدق أن هناك معنى، وكذلك على الإنسان أن يصدق، وإلا دخلنا في العدمية المطلقة، في اليأس عن حركة.  حتى إذا فهمنا أنّه لا إمكانية لإنجاز معنى،  فمعناه أننا دخلنا في ما يشبه الموت المعنوي كليَّاً، في موت الإرادة، وفي الموت الحسيِّ أيضاً، وربما في الموت الفيزيائي).
أخذ فنجان قهوتي يبرد، وأنا أفكر في ما يطرحه أصدقائي المتخيلون من قضايا حول الشعر، بينما كانت روحي هناك تحلق بمقاطع للألم وحده.
جئت بفناجين أخرى من القهوة ساخنة. تذكرت أنني في حوار غير مكتمل في يوم ما (ومتى اكتمل حوار الشعر؟). قد سألت الشاعر عاطف خيري: أخذت بالتحول بمكانك الشعري من اللغة الدارجة إلى اللغة الفصحى، كيف يتم ذلك في تجربة واحدة؟
أجابني بعد أكثر من عشرة أعوام، فيما أنا أغسل يديَّ من فضة هذه الينابيع، بأنَّه لا يستطيع أن يعبر عن رؤياه للعالم بالطريقة ذاتها، التي كان يعبِّر بها. قال إنَّه يحس بأن الأفق الشعري قد أنسدَّ أمام طريقة تعبيره تلك. فلا بد من منافذ جديدة للغة وللشعر وللحياة. لا أستطيع أن أكون دون موضوع، ودون لغة جديدة للموضوع. قلت لمحمود درويش: إجابة عاطف هذه، تذكرني بحوار كان قد أجراه معك الشاعر اللبناني عباس بيضون. حين سألك عن مسألة “الموضوع” في الشعر. هل يمكن للكلام أن يكون متماسكاً إن لم يكن منطلقاً على الأقل من بؤرة واحدة، هناك شعر منتشر، هناك شعر فلكي، ترى أنه لا يملك نقاط ارتكاز أو بؤراً ينطلق منها. ألا يجعلنا ذلك في المكان نفسه؟ وأتذكر يا محمود أن إجابتك التي نشرت بمجلة الكرمل كانت كالآتي: (نعم يبقينا في الموقع ذاته، وكما قلت، فإنّه يجعل القصيدة مشغولة بالتحديق بذاتها، بنرجسيتها، والقارئ لا يطلع منها، لا أقول محايداً، ولكن كأنه لم يكن فيها ولم يقرأها، لا هي اخترقته، ولا اشترك هو في إعادة كتابتها… الشعر يحتاج إلى ماء وتراب وعناصر، هي التي تعطيه الحياة، ولا يستطيع أن يكون تجريدياً إلى هذا الحد، لأنّ التجريد قد يوصل إلى حذف اللغة…).
وأتذكر أنّك قد أسهبت في الإجابة، لكن هذه السطور تكفي من وجهة نظري لتوضيح الفكرة. أومأَ المتنبي بالاستحسان لكلام درويش، ولكأنه كان ينظر للأمر  منذ زمن بعيد. في هذه اللحظة بالضبط ردد الصادق:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي
وأسمعت كلماتي من به صَمَمُ
نظرت لهذه الآراء من وجهتي الخاصة، وجهة المشهد الشعري السوداني، فوجدت أنّ الكلام الذي قال به درويش عن المشهد الشعري العربي، ينطبق على واقعنا. هناك تجارب كثيرة أدخلت نفسها في ما يسمى “شعر بياض”، على حدِّ قول درويش. وهناك تجارب ما زالت تكرر تجربتها الشعرية منذ سنين عدداً، لأنها افتقدت للماء والتراب اللذين يعطيان الشعر حياته المتجددة، وانكفأت على نفسها مسدودة الأفق. كما أن هناك من يناضل لبناء بيته الشعري بلحمه ودمه، بمائه الخاص وترابه الممزوج بعرق الكلمات حين تعانق بعضها بعضاً.
الحياة مستمرة في الخارج كما في الداخل. (كمل) فنجان قهوتي، ولكأنما فجأة انطفأ. حملت لذتي شاكراً كناني على هذا الوقت، وذهبت إلى ورطتي الخاصة مع العمل.

 

*شاعر من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى