ثمار

تحت الظلال

سارة الحاك
 شهادة إبداعية – تحت الظلال

من بين الخطوط المبهمة والدوائر المتداخلة؛ كانت تخرج تعابير ورؤى تربطني بالعالم من حولي، أحاول من خلالها أن أطرح الأسئلة، التي قلَما أجد لها أجوبة شافية، فكنت أطرحها وحسب، بالرسم قبل الكتابة، الذي كان شخبطات لا أكثر، كان ذلك في باكر العمر الوأنا، لم أتمكن من الحرف بعد. وأول علاقتي بالحرف كانت من خلال القراءة، والتأمل والسؤال حوله، وأشكر لمحيطي حُسْن صبره على طفلة “قليصة” كثيرة الأسئلة وربما مزعجة أحياناً.
والدتي من غرست فيّ بذرة حب القراءة، هي من قوّت حاسة الشم عندي تجاه الحبر والورق. أول ما أستطعت تركيب الحروف كتبت لها رسالة حب، ولأبي رسالة عتاب وكان مغتربا حينها.
في تلكم الأثناء وقبلها قليلاً، كانت نغمة “تنتنة بُن” حبوبتي نعمات، تجذّر علاقتي بالحكي، كنا نحتسي القهوة مع بعضنا ولا نَديم لها غيري، خلال النهارات تأخذ وتعطي معي في الحديث كراشدة تسرّب نصائحها إلى مسامعي  أثناء الحكي، تتحدث بصوتين في آن واحد؛ صوت عالٍ مسموع توصل به كلامها الظاهر، وصوت خفيض مستتر خفيييييييف، عادة ما ترسل به رسالة محددة لأحدهم، تقصد إيصالها وتنجح في ذلك، وغالباً ماتكون العبارة الخفيضة منافية للأولى، وغالباً ماتكون ذماً لمن مدح بالعبارة المسموعة، المحاكاة أو تجسيد المشاهد جزء أصيل في التعبير عن الكلام ولاكتمال الصورة، تبدأ بالزي ثم الجلسة أو الوقفة ثم ضبط نغمة الصوت، إلى اكتمالها، كانت سيدة عاملة ونقابية لها دورها البارز في مجال عملها، فضاءآتها متعددة مختلفة مدهشة رأيت العالم من خلال عينيها.
ذات هذه الجدة تشارك في حلقات الزار مع صديقاتها، في يوم ما بعد وعي سألتها
“نعومة أنت ليه ما دقيتي زار زي النسوان وما عندك بيهو شغلة
ردت ديل نسوان مطرطشات قروشن محرقة روحن”
في بيت أسرتها الكبير وتحت شجرة النيمة العتيقة المأثلة إلى الآن في ديوم بحري تعلم الفنان عبد العزيز محمد داوؤد عزف العود، كتب إخوانها الشعر، لحنت أشعارهم وتم التغنّي بها، زارتهم حواء الطقطاقة وعشة الفلاتية، ولكنهن لم يختلطن بهن، لأن للبيوت حرماتها والمغنيات ليسن من ذوات الحرمات.
لما كن هي وصديقاتها يرعين الأغنام في غابة المسكيت (شارع المدارس حاليا) كانت تحذيرات والدتهن أن عُدْن باكراً قبل أن تغيب الشمس ويقابلكن دقاش البعاتي، أو يعترضكن الأسد في الطريق للبيوت.
لما أعيد تخطيط منطقتهن بواسطة الخواجة سمسم، اتهمنه بأنه وسع الشوارع وضيق مساحات البيوت وشتمنه قائلات:
“وسع علينا
بلدنا واسعة
انت قايلا زي بلدك الضيقة
ولما سئلن عن ضيق بلده
قلن كان بلدو شايلاهو
كان مرق يمتر في بلد الناس”
رغما عن ذلك فإن العلاقة بينهم والإنجليز كانت إنسانية من الطراز الأول، زاورهم وتعاملوا معهم وتبادلوا الخبرات والمعارف.
تحت نيمة التاريخ والحكايات في بحري ولارنجة البن في الحاج يوسف بدأت تخرج الأسئلة، تتناسل، تتهيدر، تحاصرني: من أنت؟ في وقت يزعم كل من تحت الشجرة أنه الأفضل! صبية وصبيات تربطك بهم وبهن علاقة دم ومصاهرة وشربكات متعددة، كلما ازدادت تعقيدا كلما ازداد إصراري على حلها.
داخل غرفة الجدة الكبيرة دثار من حديد منسوج بقامة رجل، مجوز معتني به، لا يقترب منه أحد، حربة، كوكاب، رائحة الغرفة تشبة رائحة المتاحف، غبار عالق منذ قرون، علمت فيما بعد ان الدرع للجد الكبير الذي حارب مع التركية وأتى بزوجة مغربية، تدعى الليمون، هو من قبائل الدينكا، وهو من أورثهم طولاً مديداً، هذا جد قديم لم أره، أما جدي الجديد الذي حفّظني القرآن الكريم وقص عليّ قصص الأنبياء وعلمني فروض الوضوء وكيفية الصلاة الصحيحة فهو جدي لأمي عبد الجليل علي لسانه ألحن، يتكلم العربية بلا اعتناء بها، يقرأ القرآن بصوت عربي مبين ويتحدث الإيطالية بطلاقة مهيب على وجهه نور.
يتحدث مع أقاربه الذين يزورونه لغة لا أعرفها،
سألته ان علمني إياها رفض،
قائلاً “انت ما داجاوية” وهي قبيلته التي ينتمي إليها وكأنه كان يخشي عليها مني،
بكيت وهرعت إلى أمي:
“جدي قال اأنا ما داجاوية زيّو”
ضحكت ومسحت على رأسي وقالت “أيوة كلامو صاح”.
من بين دموعي سألتها:
“طيب أنا شنو”
قالت “الجمل بقودهو من رقبتو”، لم أفهم ولكني نسيت الأمر.
تسلسلت الخيوط وتشابكت وصار السؤال ملحاً.
ازدادت المعارف وتجمعت بعض الجمل، كنت أحب العربية ومعلمتها، وحصة الإنشاء لانتشائي أثناء الكتابة، لعلو هامتي بين زميلاتي وأنا أحرز أكبر درجة في الفصل، كانت المعلمة تحفزني وأمي كذلك، أشارك في البرامج الصباحية والجمعية الأدبية، بينما كن زميلاتي في مرحلة يعتنين بمظهرهن لاصطياد الحب والحبايب، كنت أعتني بخطي وقلمي وكراساتي، ليس زهداً مني فيما يفعلن فقد كان يعجبني لكني أستطيع إليه سبيلا، إذ إن بُنيتي كانت لطفلة وملامحي كذلك لم تتشكل كأنثى، لم أنل من الجمال ما يجعلني هدفا لأفراد الجنس الآخر (حينها فقط) وقتها كنت اهتم بتنميق خطاباتهن الغرامية وضبط لغتها بحيث تكن أكثر شاعرية وتعبيرا عما يجيش في دواخلهن وكنت أنتقم من الفرحان الذي كتبت له الخطاب ضحكاً في سريرتي.
كان الجو العام مؤاتياً والحرية تشمل كل مناحي الحياة، ركضنا خلف السيارة التي تدعو إلى ندوة الحزب الفلاني محددة الزمان والمكان، حفظنا أناشيد كورال الحزب الشيوعي رددنا مع الفاتح قميحة أغنية لا أذكر اسمها ولكنه يقول في مطلعها:
نسميهم أسامي نضال
ابننا الأول السودان
وبتنا ثورة وطنية
في تلكم الأجواء نشأنا ما بين المخيمات الصيفية لطلاب الجامعات إلى دور الشبيبة في الأحياء وأعمالهم التي رسخت معاني العمل العام بأشكاله المختلفة، من بين النشاطات كانت هناك النشاطات الموجهة للأطفال ذوي المواهب، أقيمت لهم المسابقات وكنت من المشاركين وحظيت بالميدالية الفضية وقتها في الرسم والذهبية في الكتابة كنت في التاسعة من عمري حينها.
شاشة تلفزيون السودان أخبار التاسعة مساء، يسرية محمد الحسن تتلو على مسامع المشاهدين الأخبار بعادية تامة، ترتدي ثوبا بنفسجيا فاتحا عليه ورود بنفسجية غامضة، تغطي شعرها بالثوب فقط كان مصففاً وجميلاً.
شاشة تلفزيون السودان بيان التاسعة صباحاً، يسرية محمد الحسن ترتدي ذات الثوب، ولكن تحته إيشارب يغطي شعرها تماماً، فلا أستطيع أن أجزم إن كان مصففاً أم لا، لكنها كانت تنعى لنا ذلك الزمن الفائت بكل مارفيه من قبح وجمال، الأمسية كانت أمسية الخميس 29 يوينو 89 والصباح كان صباح 30 يونيو الغاتم الكئيب، وإلى الآن…
تحولت الحياة ابتداءً من نوع الطعام وشكله وسعره وطريقة الحصول عليه، تغير النشيد الوطني للدولة، تغير إنسان الدولة، ونشاطه ابتداء من كتائب الجهاد إلى عزة السودان واحد.
وبداية الدخول إلى الجامعة العصف الذهني جو يشبه إلى حد ما قبل 89 إلا أنه هنا مرهون بالخطر والموت، تذهب إلى الجامعة تصحبك الوصايا “ما تتكلم في السياسة”، ما تقيف في الركن وتفجرت الأسئلة من جديد، وكان القلم خير وسيلة للتعبير عنها، وللإجابة عليها، خبرت دروب الكتابة، وكلما تعلمت أكثر، ازدادات الأسئلة تعقيداً عن الإنسان، الهوية، الحب، الجنس، المرأة، الله، الخ …
ومازلت وسأظل اكتب فانتظروني.

 * قاصة وروائية من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى