نصب ميدان الحرية بذرة زرعها “جواد سليم” في بغداد
مَن يعتقد أن النحات العراقي الراحل جواد سليم، رحمه الله، كان عابثاً عندما صمم ونفذ بالتعاون مع المعماري العراقي الشهير رفعت أو جاهلًا لمغزى لحرية في ساحة التحرير في العاصمة بغداد، سيكون هو بلا أدنى شك على خطأ، واعتقاده هذا هو العبث بعينه.
كذلك من يفسر أن القطع البرونزية الأربعة عشر على إنها تمجيد وتخليد لثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 فقط، سيكون قارئاً سطحياً وجاهلًا لمغزى تلك الرموز التجريدية للفكرة الحقيقة التي قصدها سليم رحمه الله.
فمن المعروف أن المدرسة التجريدية التي اتبعها النحات العراقي الراحل سليم في معظم أعماله تتمحور حول فكرة واحدة، وهي قيام الفنان سواء أكان نحات أو رسام أو في أي مجال من المجالات الفنية الأخرى، بعمل رموز تشير في مضمونها لأفكار أوسع من دلالة الرمز ذاته الذي صنعه ذلك الفنان، كما هو الحال في تلك القطع البرونزية الأربعة عشر في نصب الحرية، ذلك الصرح الفني والمعلم الحضاري الأبرز في العراق وحتى على مستوى منطقة الشرق الأوسط والذي شُيّد في أواخر خمسينيات القرن المنصرم.
والذي يعتقد أن الراحل جواد سليم كان يجرد أفكاراً سريالية من وحي خياله باحثاً من خلال تصميم النصب عن متنفسٍ لما يجول في مخيلته من أفكار كنحات وتشكيلي عراقي ويسقطها على شكل قطع عبثية عددها أربعة عشر قطعة برونزية مصبوبة ومثبتة على ذلك الجدار الذي يحملها شامخة حتى يومنا هذا في حديقة الأمة في منطقة الباب الشرقي هو مخطئ أيضًا.
وحتى الذين تمعنوا في القطع البرونزية الأربعة عشرة من خلال منظور التفسير التجريدي للفكرة التي أراد إيصالها الراحل جواد سليم، لم يكونوا على ما اعتقد موفقين حد الكمال في تفسيراتهم.
فالراحل جواد سليم صمم ونفذ القطع المكونة للنصب ورحل عن الدنيا، ولم يفصح عن مقصده الحقيقي من فكرة تصميم النصب وترك الباب مشرعًا للتفسيرات والتأويلات التي باتت اليوم محل جدل وخلاف بين المفسرين.
كأنه عند تصميمه للنصب بعبقريته الفذة أراد إيصال فكرة للأجيال التي ستأتي من بعده غير التي شرحها هو رحمه الله للسلطات الرسمية، وقت تقديمه للتصميم لهم آنذاك والتي يرددها ويتبعها البعض في هذه الأيام لتفسير الرموز الأربعة عشر في النصب العظيم.
كأنه كان يخشى على حياته من بطش تعاقب الحكومات والحكام التي لم يكن يعرف وقتها أنه سيفارق الدنيا نتيجة العمل المضنى الذي قضاه في تصميم وتنفيذ قطع النصب والذي أدى إلى تعرضه لنوبة قلبية فارق الحياة على أثرها مباشرة بعد اكتمال العمل فيه رحمه الله.
أخفى الراحل جواد سليم لغز أراد به إيصاله للأجيال من بعده من خلال النصب الذي صممه، وهو أن الحرية لا تستجدى من الظالم والمتسلط بل إنها تؤخذ بالقوة لمن أرادها، وفكرته هذه قد تنبه إليها “شياطين” الأنظمة التي حكمت العراق فيما بعد فحاولوا هدمه وإزالته مرارًا.
والنافورة التي نصبت تحته في حقبة من الزمن في عهد حكم البعث ما كانت إلا محاولة من محاولات هدم الغرض منها، وهي خلخلة أساساته كي يتصدع النصب مع مرور الزمن ويسقط. وهذه محاولة واحدة من عدة محاولات لكنها خابت والنصب لا يزال باقي في مكانه حتى الآن، كما وأنه لايزال يحمل أثر رشقات الرصاص في انقلابي عام 1963 و 1968 المرممة أثارها حتى الآن.
إن ثمرة تلك الفكرة عن الحرية التي أوصلها جواد سليم رحمه الله أصبحنا نفهمها اليوم بعد أن احتضن النصب ثورات الحق ضد الطغاة على مدى نصف قرن من تاريخ العراق، وبتنا نفهم أن اسم النصب هو اللغز : أي الحرية التي زرعها جواد سليم بذرة في وجدان الشعب العراقي نمت فصارت شجرة وارفة الظلال يستظل تحتها الأحرار، وما يحدث في هذه الأيام من ثورة شعبية تضم كل أطياف الشعب العراقي ضد الفساد وانعدام الخدمات وأن رحم هذه الثورة ومركزها هو ساحة التحرير ونصب الحرية العتيد.
* كاتب وقاص من العراق