ثمار

الأساس الهيرمنيوطيقي للعلوم الإنسانية عند فيلهلم دلتاي.

مدخل :

تعقب دلتاي الإشكالية الهيرمنيوطيقية من موقع فلسفي أبستمولوجيا مغاير في تركيبه ووجهته عن سلفه وأستاذه الملهم، فريدريك شيلايرماخر، فهو ومنذ البداية يجعل إشكالية الفهم بصوره عامة والمهمة الهيرمنيوطيقية بصفة أخص، منغمسة في مساءلة التاريخ ومعنى الحياة التاريخية. إلا أن ما يجمعه مع شيلايرماخر وغيره من الرومانسيين، هو الرغبة المتسلطة في المباشرة والكلية، التي أخذت تسود تفكيره . غير أن المباشرة والكلية، لا تعني في سياق المشكلات التي فكر فيها دلتاي ووجه إليها أنظاره، نفس المعنى الذي حملته في أفق مشكلات الفلسفة المثالية المتعالية. على العكس مما يبدو عليه الأمر في بادئ العيان، إن رغبة دلتاي في المباشرة والكلية تتجه أساسا لإقامة انقطاع عن تراث المثالية التأملية، فهو ينسحب منها بموجب رفضه للنموذج الذي ساد وكرسته النسخة المحدثة من الكانطية. ولكي نفهم الاختلاف الأساسي في معنى المباشرة والكلية التي رغب فيها دلتاي واشترطت عليه تقصي الإشكالية المعرفية الخاصة بالعلوم الإنسانية، يجب علينا أن نعود القهقرى ونلقي نظرة على دلالة هذين المفهومين (المباشرة والكلية) داخل فلسفة ديكارت.

إن فعالية الكوجيتو التي تنكشف أساسا في جذرية الشك المنهجي، التي تطال أي شيء ، وكل ما هو موجود، لا تفضي إلى انعطاء شيء في مباشرة تامة ومكتملة غير الذات التي يصدر عنها هذا الشك، فهي وحدها ما يتم تأكيدها في فعالية الكوجيتو، إنها تثبت في بداهة يجلبها السلب الذي يتوسع في الشك ذاته، إنها المباشر الذي يقف قبالة المعطيات التجريبية، قبالة الموضوعات التي يلفها فضاء امتداد العالم الخارجي. إن هذه الذات، وإن امتلكت القدرة حتى على الشك في وجودها نفسه، فلا يسعها أن تشك، فيما تقوم به إزاء نفسها، أي الشك، فبمقدرتها على أن تسرب الشك إلى كل شيء حولها، فهي تثبت أن هنالك أساسا يتأكد مطلقا، حتى عبر هذا الشك الذي يجرف كل شيء في طريقه، هذا الأساس هو فعل الشك نفسه، الذي هو بدوره نحو من أنحاء ماهية كبرى يبرز في إطارها، أي الفكر. إن مجال الفكر هو الذي يحمل الذاتية التي تًسلم نفسها مباشرة في التأمل إلى الوجود، وهذه الذاتية لم تصل إلى هويتها من خلال انضمامها إلى موضوعات التجربة في العالم الخارجي، فالتضام لا يوصلها إلى كينونتها الحقيقة، بل احتازت هويتها من هذه الممارسة الباطنية التي أثبتت لها مباشرتها في تدفق السلب والشك على كل ما يتخذ في الامتداد حيزا لحضوره، فهي بالتالي متمايزة من حيث الجوهر عن ما يبرز محتشدا في الحس والعيان. وحدها الذات قبالة الامتداد الامبيريقي هي ما يعطي في مباشرة وبداهة متميزة، ووحدها هذه القسمة ذات/ موضوع ما تشكل الأساس الكلي لمعرفة العالم الطبيعي والتاريخي على السواء. إن كل ما يهجع في الامتداد، يتعين من خلال كيفيات يعًينها العقل بغية الإمساك على المعطى، على أن هذه الكيفيات تعتمد على الامتداد كشرط مسبق لقيامها، ولا يكن من شيء قابلا لحمله في خصائص من دون العوز إلى الامتداد، و ما تموضع فيه من معطى إلا وتم تعينه في ضوء مقولات كيفيه وكمية، ترصد أحوال هذا يتقلب في الحس والتجربة. كل الأشياء التي يلحفها الامتداد، تنعرض للحواس من خلال توسيطات تخص جهة تعيُنها، والتأليف بين التوسيطات هو ما يجلب إلى الموضوع الممتد ماهيته الحاسمة، غير أن الأنا أفكر لا تأتي عن طريق أي تأليف يقوم به العقل ولا أي توسيط يُجليها في الامتداد، فهي متكومة هناك، ومنعقدة في طرف الشك مباشرة، ومستقلة بالكلية عما تلاحظه.

إن المباشرة التي يمكن تلمسها هنا في عمل الكوجيتو، مباشرة باطنية وتأملية، تتعالى على أي حدود امبيريقية، هي شيء يحمله الشك المفكر مسبقا بين جنباته، إنها مباشرة لا تأتي من معايشة لأي محسوس، ولا من اختلاط بأي معطى في فضاء التجربة، إنما مباشرة نصلها بالاستبطان. أما الكلية فهي القسمة التي يأتي بها شكل التأمل المنطلق مما هو باطن، ومحايث لذاته ومتقوما فيها بالجملة والشمول، أي الذات، منفصلا عن أي موضوع.

إن ديكارت وهو يضع الأسس الجديدة للمعرفة العقلانية، كان يبحث عما هو مطلق ليقيم عليه المعرفة والوجود، نوع من اليقين المفقود، بين أنقاض الفلسفات المدرسية، وفلسفة الطبيعة. إذ وجد أنه لا يمكن إقامة اليقين على موضوعات التجربة، بما أننا نلج التجربة ونعي العالم بتوسيط الحواس، التي بسبب محدوديتها وقصورها الذاتي، تنثر الغشاوة والخداع حول معطيات العالم وموضوعات التجربة. فلذلك يجب أن نيمم وجهنا شطر الفكر والتأمل.

لم يكن فيكو يرى في نموذج العقلانية الذي وجد أساسه مع ديكارت، صورة من الفكر يمكن أن تنطبق على التاريخي والإنساني. على الرغم من السيادة التي تمت لنموذج المعرفة العقلانية الذي أتت به فلسفة ديكارت، عمد فيكو على تحدي الزعم بالمباشرة والكلية الذي يتضمنه الكوجيتو الديكارتي في طياته. ففي رأي فيكو، وبخلاف ما يذهب اليه ديكارت، لا يمكن لهذه الصيغة من العقلانية المتأسسة على الكوجيتو، أن تكون الشكل النهائي للمعرفة واليقين، لما تتضمنه من مصادرة أخذ بها ديكارت على ثقة قصوى ولم يخضعها هو لشكه الجذري، إن ديكارت حتى لم يتساءل عن ملائمة صيغته هذه لشكل مختلف من الظواهر، عن تلك التي وجه إليها آلته الريبية، أي تلك الظواهر التي تتصل بعالم الإنسان وحياته في التاريخ، فما يبدو من هذا القفز على الظلال أو فلنقل الصمت الدال، أن ديكارت كان يعتبر أن التشابه بين الإنساني الذي يُجري الشك والطبيعي الذي يَجري عليه الشك، أمرا محسوماً ومضموناً مسبقا يؤمنه التمثل الذي يجتاف موضوعاته ماهية وسببيةِ ليُمٍكن الأنا افكر أخيرا من إقامة التطابق بين اللوغوس والوجود. بالرغم من أن ديكارت لم يصرح بهذا الأمر بواضح العبارة، وإنما اكتفى بتجاهل هذا الجانب الإشكالي للمعرفة (حول علاقة الإنساني بالطبيعي) إلا أن مبدأ الذاتية المكثف في فلسفته حمل فيكو على الاعتقاد بأن الأمر لم يكن مجرد سهواً أو سقوطا في النسيان. إن فيكو كان ينظر إلى مشكلة الأسس العقلانية للمعرفة، من حيث هو كائن متموقعاً يًعايش المعنى داخل التاريخ ويعيش في التاريخ بالمعنى. لذلك نبصره يتجه متغلغلا فيما ظل مجهولا بالنسبة لديكارت، وما لم تنيره ظلمة الشك بالكوجيتو المتفكر. فهو يرى أنه إذا قبلنا بالاتجاه الذي يفرضه النموذج الديكارتي على التفكير في الطبيعة، فإننا لا يمكن أن نقر نفس الأمر على ما يجري في الواقع التاريخي الذي يحيا فيه الإنسان. إننا نرى أن رؤية فيكو كانت شديدة الحساسية للاختلافات القائمة بين الطبيعي والتاريخي، فهو في كتابه “العلم الجديد” لم يركز على شيء أكثر من إجلاء هذه الاختلافات والتمايز بين بنية العالم والتاريخ ووقائع وبنية النظام الطبيعي. على الرغم من اشتراكهما في خاصية الحدوث، حيث أن الحدوث هو الذي يجعل من ما يقوم في الطبيعة ظواهراً تسلب انتباه الإنسان الذي يتبصر ويتساءل، وكذلك الأمر أيضاً على المستوى التاريخي، فما يجعل من فضاء تاريخيا معينا، حقلا من الظواهر توجه تفكير من يرى ويعايش ويفهم، هو الحدوث أيضاً، فهو السمة التي تسم و تكتنف ما يجري في الطبيعة وما يجول في الحياة التاريخية لبني البشر، ومع ذلك ليس بوسعنا المساواة والمماثلة بينهما تماما، إذ أنه من منطق الحدث نفسه ألا يكون متماثلا ومتجانسا، لا من حيث البنية والفضاء الذي يملأه الحدث، ولا كذلك من حيث الأفق الذي يحمله في جنباته أو من ناحية الإمكان الذي يطلقه للفكر والفهم . وحينما نتحدث بشكل واسع وعام عن طبيعة إنسانية، فنحن على الأرجح نفعل ذلك مشيرين إلى ما يقوم في التاريخ كحدث يُعٌرٍف بما يقع على الإنساني ويحفر في كيانه الهاوية التي تفصله، ولا تعزله، عن الشروط الحزيمة لما هو طبيعي. بهذا، ينظر فيكو إلى الطبيعة الإنسانية كظاهرة تطرأ تاريخيا.

أمر آخر يجرؤ فيكو على تقريره والأخذ به، فالعوالم التاريخية التي يحيا فيها البشري، هي ما تمتلك الأولوية المعرفية حينما كانت هي سبيل الإنسان وفضاء وجوده الذي يُشكله ويُشاكٍله فيتشكل منه. وبهذا فهذه العوالم أزخر اعتضاداً بالإنسان من الطبيعة، وهي بالتالي ما نلمحه مباشرة في سكناه للإنساني واستكانته إليه، وعليه فإن الوسع على معرفة ما هو محايث أصلاً للإنساني ومُقٍيما له في ذات الآن، أوفر من خلافه في نصيبه من اليقين والاشتمال، و بكون أنه يفصح عن نفس المشكلات الوجودية التي تجابه البشري، على اختلاف نحله وملله. إننا في العوالم التاريخية بماهي شرط وأفق يتحقق فيه وجودنا نملك مزية أكبر على كل ما سبق تأكيده، فنحن فيها لا نتعرف على أشياء وموضوعات منعزلة عنا وجب لكي تعرف أن ننقطع عن بداهة انعطائها و طغيانها على حواسنا وعقولنا، إننا في حالة العلم الطبيعي نقوم بفعل الموضعة كشرط قبلي لمعرفة ما نقصد إحكام قبضة الوعي عليه، ومن فعل الموضعة هذا نخرج بكيانين منفصلين، هما الذات / الموضوع يفصلهما نمط وجودهما الخاص. إننا نفهم العوالم التاريخية من خلال حياتنا وعيشنا فيها، لا نفهم شيئا مغاير لنا من حيث طبيعته ولا مفارق لنا في جهة ماهيته، بل إننا نتعرف على ما نحياه ونعيشه، ونعيش كذلك في أفق ما نعرفه ونبنيه، إننا نعي هذه الحياة و نرتئيها من الداخل، وليس الداخل هنا داخلُ يكشفه حدس متعالي أو استبطان، ولكنه داخل تتجمع فيه آثار حياتنا التاريخية ويكون فيه تبصرنا بالحياة التاريخية، حدثاً في تاريخية الحياة ووعيا بأنفسنا أيضا ، فإنه من طبيعة حياتنا في التاريخ أن نستعيده وننتظم في تأمله، ومن طبيعة الحياة التاريخية أن تتأمل ذاتها من خلال أشكال تحققنا فيها. إن المعرفة الحقة، ومعرفة الحقيقة عند فيكو، مقترنة بالعالم الذي يصيغه الإنسان معبرا عنه، وما أن نمعن في توسيط التاريخ لتحليل البنى الإنسانية (كاللغة، الأساطير، الأديان ….) إلا وفهمنا هذا العالم في حقيقته الممتلئة وانكشف لنا تمايزه واختلافه عن الطبيعة التي يقيم فيها.

إن فيكو يطور مفهوما عن المباشرة والكلية متأسساً على الاختلاف الحاسم بين الطبيعي، والإنساني التاريخي، من جهة، وعلى إمكانية رؤية الحياة الإنسانية من خلال خبرتنا بها في أفق التاريخ من جهة أخرى. فالمباشرة لا تسكن الحدس المتميز ولا تقيم في الواضح بذاته، إنها وليدة الخبرة بالحياة التاريخية وربيبة التفكير القائم في ضوء هذه الخبرة، وأين ما حل الوجه البشري، يثير الوجود عليه نفس الأسئلة ويفتح أمامه ذات المشكلات، وبتحليل هذه وتلك مستعيناً بالتاريخ، فإن العلم الكلي بالطبيعة الإنسانية يمتلك شروط وجوده وإمكانه.

أضحت مجهودات فيكو، إشارات ملهمة لدلتاي، فهو بتركيزه على الحياة التاريخية التي تجثم ماهية البشري في طياتها، ألهمه الطريق الذي به انعطف بحدة عن المثالية التأملية، والذي أجلبه القدرة على النفاذ إلى دوغمائية النزعة التجريبية الإنجليزية على السواء، فوجد دلتاي نفسه على مفترق طرق، وهو مفترق حاسم في تشكيل فكره حول العلوم الإنسانية، والهيرمنيوطيقا بمقتضى الحال. إن وجود دلتاي في مفترق الطرق هذا، دفعه إلى الالتفات نحو كل اتجاه، والتحديق في الهاوية التي يضمرها كل اتجاه بدوره. لا شك أن ما عمق حالة التيه، هو تهاوي النسق الهيغلي، الذي كان يؤمن بقدرة المفهوم على إظهار غائية الوجود والتاريخ، وقدرة التركيب القبلي على استيعاب منطق التاريخ الذي يتقلب فيه الوجود. إن المعرفة التاريخية أدارت ظهرها لما كان قديما رهانها الرهين. فالتاريخ في ضوء التجربة لم يعد يكشف عن روح تلاحق المطلق عبر تحقق الوعي الذاتي بالحرية، التي هي ضرورة هذه الروح وماهيتها، فإن ما نعيشه في التاريخ ويحضر أبدا، انما هو الحدث والتجربة. ضمن هذه الوضعية، كانت المشكلات التي طرحها نفوذ الفلسفة المثالية التأملية بواسطة إسهامات كنط ،لازالت تلقي بظلالها على تساؤلات ذلك العصر، خصوصا بعد أن ساد تداول مصطلح الأبستمولوجيا، الذي برز في الهزيع الأخير للقرن التاسع عشر من بين أنقاض النظام الهيغلي، وأخذ يتكثف مفهومياً حينما التجأ العديد من مفكري ذلك القرن إلى بعث الفلسفة النقدية ومحاولات تجديدها عن طريق دمجها بالمشكلات الإنسانية التي اُثيرت من داخل حقل المعرفة التاريخية. في هذا الوضع الإشكالي الملتبس نشأ تيار الكانطيين الجدد محاولين الاستدراك على ما أغفله كانط في تأمليته النقدية وحاولوا إعادة تكييف البناء الكانطي النقدي. لم يكن من خيار ممكن لدلتاي، غير مواجهة الأمر برمته. فأفق الإشكاليات التي أطلقتها الفلسفة المثالية، كان ينحسر شيئا فشيئا أمام التقدم البارز للنزعة الوضعية في المعرفة، بل سادت دعاوى واضحة التشكك في جدوى التفكير المرتكز على الفلسفة في نسخة ذلك العصر. واستلزمت هذه المواجهة أن يكثف دلتاي الاختلاف الذي أضاءه فيكو ويرفعه إلى منزلة تعارض جذري بين أنماط العقلانية التي تقتضيها معرفة الطبيعة وتلك التي تتمفصل على الإنسان وخبرته المحكومة تاريخيا بالحياة. فالطريق الذي صٍيغ على وقع خطى المفكر النابوليتاني كان بالنسبة لدلتاي أفقا يستشرف فوقه أسساً جديدة للمعرفة الإنسانية، ولذلك دأب يبحث عن هذه الأسس في مفاهيم، لا يتم اشتقاقها من معطى، ولا بداهة منطقية أو قضايا تُكتشف وقابلة للتحقق منها امبريقياَ، إن المفاهيم هذه التي يعنيها دلتاي ويخصها بالإيضاح، تسكن أرضاً مغايرة تماماً، كل شيء فيها أفقي حيث وشديد التعالق وإشكالي من فرط بداهته.

زر الذهاب إلى الأعلى