ثمار

نصوص سردية

حسن البكري

(1)          المشير جالس في الكنيف

لما باغته زعيق المظاهرات قادماً عبر النافذة الشمالية، كان المشير متقرفصاً على حافة مقعد المرحاض، من الأمام.  هو يختار الحافة دائماً لجلوسه على مدى نوبات برازه اليومية الثلاث، إذ يتيح هذا الوضع مساحة متسعة على المقعد خلف مؤخرته فيصير بوسعه أداء الانزلاق في الاتجاهات كافة بغرض إفراغ مصرانه الغليظ الذي أفقده الارتخاء إضافة إلى فتاق العانة قدرته الفطرية على التمدد والانقباض.

ربما يترتب على انفلات الفوضى عواقب لا يمكن لأحد التنبؤ بنتائجها، إلا أن المشير اعتمد دائما على ولاء قوات مكافحة الشغب التي أبدت قسوة بالغة في قمع الاحتجاجات على مدى سنوات حكمه الثلاثين.  لكنه الآن، وهو مقعٍ على مقعده الرخامي الماهل، أصيب بوجل طاغٍ حين ترامى إليه هدير الجماهير الغاضبة قادما من النافذة الجنوبية أيضا هذه المرة. أدى فزعه المفاجئ إلى تنامي عطب مصرانه فعلق البراز بإسته، مما جعله يمضي وقتا أطول في ممارسة الطبيعة، كما سيسمي التغوط فيما بعد من خلال المذياع على أثر قمعه لانقلاب عسكري نجح في إزاحته عن السلطة لبضعة أيام.

 يستطيع تمييز أصوات أسلحة فض التظاهرات المختلفة وهو ما يزال عالقاً فوق مقعده اللامع.   يأتي زياط قنابل الغاز المسيّل للدموع التي يبدأ صخبها بعيداً، جهة الشمال، ثم لا يلبث أن يقترب من كلتا جهتي التظاهر، وتتسلل إليه نتانة الغاز مما يزيد إحساسه بالاشمئزاز ويرفع من درجة توتره.  ما أن ينهض بعريه وروثه ليغلق النافذتين حتى يسقط ما علق بشرجه من فضلات على سيراميك الغرفة.  لا يعير الأمر اهتماماَ ويهم بإستئناف قضاء حاجته لكن مكافحو الشغب ينتقلون بعزم إلى إطلاق الرصاص الحي.

شعر بالامتنان لكتائب الشرطة التي لم تتوان في دفع الفوضى تجاه محطة السكة الحديد، بعيدا عن مرحاضه. انفرجت أساريره قليلا إذ أدرك بخبرته الطويلة في مقارعة الخطوب، أن الرصاص انطلق في اتجاه أفقي الأمر الذي ستترتب عليه إصابات قاتلة قد تؤدي لاستتباب الأوضاع.  استمر متقرفصاً بينما أتته طقطقة الرصاص من مسافات أبعد فاستطاع إفراغ غليظة دفعة واحدة هذه المرة.   غسل مؤخرته بالماء ثم بصابون الفنيك السائل فخطر له أن مهمته قد أنجزت، لكنه رأى الروث السميك الذي كان قد تدحرج تجاه الباب حين نهض لإغلاق النافذتين.  حمله بيده اليسرى بتأفف وألقاه في فوهة المقعد ثم ضغط دواسة التصريف.  غسل كفيه للمرة الثانية بالصابون وكرفهما فلاحظ أن رائحة الغائط لا زالت تفوح منهما، فغسلها مرة إثر مرة لكن الرائحة ظلت متشبثة بهما.  دفع الباب وخرج مهتاجا ثم شرع في مكالمة تلفونية هادرة أعقبها مباشرة إطلاق كثيف للرصاص الحي في اتجاهات متباعدة شملت سوق السلع الاستهلاكية المزدحم بالباعة والمتسوقين جوار ميدان الأمم المتحدة.

(2)          بورتريه الجنرال

ها هو الجنرال يقف بإتزان، لكنها وقفة تشي بحركة طفيفة، فيشب الكعب الأيمن وتبرز انحناءة منفرجة للركبة اليسرى رغم سروال الجوخ العسكري الثخين. إنه يطوي كميّ قميصه الطويلين إلى منتصف ذراعيه لتتدلى كفاه الهائلتان المعروقتان، وفي استرخاء استحواذه المطلق على القصر الرئاسي، ها هي وقفته تتدفق حيوية وجسارة وتنطوي على صلف بالغ يعبر عن روح متوثبة وإرادة باطشة لا تلين. وبينما تلوح اليدان وكأنهما غير منسجمتين وتفتقران إلى التناسب الذي ميّزهما في صور شبابه الباكر التي يحتفظ بها المتحف الوطني، إلا أنهما تبدوان جميلتين إلى أقصى حد. أيضا يظهر كما لو أن الرقبة والوجه يفوقان في حجمهما أكثر من حجم نصف المسافة بين الخصر ومنبت الرقبة؛ تلك تقنية لا نظير لها لتكريس نظرات الجنرال المصوبة من تحت حاجبيه المعقودين في تقطيبه نارية متحدية.

هل تثوي خلف هذا التوازن المريع رغبة جياشة للعراك، كما حدثني سالم قيل يوم واحد فقط من أحداث الجامعة التي عصفت تداعياتها بالجنرال؟ لا أحد يعلم على وجه اليقين، فعلى مدى أيام الثورة لم يهدأ زعيقه المنبعث من محطة إذاعة “هنا أمدرمان”. على كل حال، تعكس كل الصور الفوتوغرافية التي التقطت لمراسم تسليمه السلطة للرئيس الانتقالي ملامح لرجل أكثر بؤسا ومسكنة من أي متسول في العالم.

(3)          الجندي الذي ولى الأدبار

 رغم مضي السنوات أجد صورته محفورة في قلبي، نحيل، طويل القامة، محنى الظهر، نظراته نفاذة، رائقة وابتساماته مباشرة، صادقة. ها أنا ذا الآن جالس أتخيل، وهذا موقف سينتهي في الغالب بإثارة كآبتي رغم المتعة الحقيقية التي أجدها في تذكاره. زيادة على ذلك، فإن ملامحه وهو حي تظل ماثلة أمامي في العادة وأنا أتذكر، أما هذا النهار فإن الأمر يبدو مختلفا تماما. لا أرى اليوم إلا صورته وهو ميت، رغم محاولاتي المضنية لتخيله حياً، مما جعلني لأول مرة منذ اغتياله قبل عشرين عاما أستيقن أنه قد رحل إلى الأبد.

تقابلنا أول مرة مصادفة في حفل استقبال الطلاب الجدد بالجامعة. بهرني بأناقته واعتداده غير المحدود بنفسه، ذلك النوع من الاعتداد العنيد، الخطير الذي لا يعرف نكوصا من أي نوع حين يتعلق الأمر بالكرامة الشخصية، ولم يكن هذا ناتجا عن أنانية أو صلف ولكنها في الغالب صفة أورثته إياه سنوات القهر المتصل والنضال القاسي لقومه. فيما بعد حين غدونا أصدقاء بالفعل كان يتنازل بكرم مبذول عن وجهات نظره المتشددة، وعندها كنت أرى عينيه السوداوين تشعان بمهابة ساحرة.

كان مسجى على ظهره طويل العنق، هادئ القسمات وتلوح ابتسامته الجميلة بثبات راسخ. ولم تكن عيناه بأهدابهما الكثيفة مغلقتين حتى النهاية كما أن حاجبيه لاحا أزجين، وأنفه لامعا ومصعّرا إلى أقصى حد. بدا أثر الرصاصة باهتا وسطحيا ولا يوحى بأنه يمكن أن يكون قد تسبب في موته. كان ذلك أمر غريبا بالفعل، فأنا من رأى الجندي يضغط بالمسدس بشدة على صدغه الأيمن حين أطلق الرصاصة.

صباح ذلك اليوم حين صحا الطلاب خائفين، مرتبكين على طقطقة البنادق ولعلعة الرشاشات قادمة من جهة القيادة العامة بقي هو في سريره كأن الأمر لا يعنيه من قريب أو بعيد. أذكر أنه رفع رأسه من وسادته وقال بالإنجليزية بهدوء:

–         أهم ما في الأمر أن المحاضرات ستلغى هذا اليوم!

ثم أدخل رأسه تحت الغطاء وواصل نومه دون أن يكلف نفسه مجرد أن يغير الجنب الذي يضطجع عليه.

عند الساعة العاشرة صحا سعيدا يدندن أغنية رقى شهيرة، وبعد أن قام بطقوس الصباح المعتادة وقف معنا، نحن المذعورين مثل كتاكيت، يحدد لنا بالضبط نوع الأسلحة المستعملة في القتال بمجرد سماع صوت طلقاتها، وقال انه لا داعي للخوف فمنطقة القتال لا تزال بعيدة تماما عنّا.

في منتصف النهار سرت إشاعة تقول أن محاربين مرتزقة من الجنوب والغرب الأقصى أو ربما من جبال النوبة يساعدون القوات المتمردة. بعد الساعة الثانية اقترب القتال من داخليات الجامعة. اقترح علىّ أن نغادر الداخليات.

في الطريق قابلنا وكيل عريف يحمل رشاشا ويتمنطق مسدسا يتقهقر بوجل من منطقة القتال. ضحك وقال لي أن هذا العسكري يحاول أن ينفذ بجلده. لا أعلم كيف سمع الجندي كلماته. ترك ما كان قد عزم عليه من هرب وتقدم ناحيتنا. قال له:

–         أنت نوباوي، أليس كذلك؟

لم ينتظر إجابته. أخرج مسدسه من الجراب، ثم قال:

–         جبان.

ضغط بالمسدس على صدغه.

رد عليه:

–         أنا جبان؟ ربما، ولكن الشجعان على كل حال يتقاتلون هناك، وراء ظهرك!

ضغط الجندي على زناد المسدس. خرجت الطلقة تدوي فطاح غارقا في بحيرة من الدم الطازج، ولما انحنيت عليه أساعده رأيته مبتسما وجسده ينتفض انتفاضا هينا، ثم أسلم الروح دون أن يسمح للابتسامة أن تفارق شفتيه. تركته ملقيا على قارعة الطريق وأسرعت أطلب المساعدة، وحين التفت أنظر أسفل الشارع رأيت وكيل العريف الذي رمى المسدس قد أطلق ساقيه للريح يواصل تقهقره في الاتجاه المعاكس لموقع القتال.

* روائي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى