عن قضايا الشعر والتغيير والواقع كان هذا الحوار مع الشاعر الأصمعي باشري. عن اللحظة التي يقرأ فيها الشاعر اضطرابات العالم، يرى، يفكر، ثم يزجي بأسئلته في ضرام
تتفتق عنه أسئلة أخرى. وكما يقول باشري: (خُلِقَ الشاعر ليدحض مسلمات الآخرين).. ينفث بحزمة الأسئلة التي يولِّدها محاوِرُه، ويتساءل: (نحتاج إلى تعريف جديد لمثقف التغيير: من هو؟ وكيف يفكر في واقع مأزوم؟ كيف يحلل في مشهد يكتنفه التشظي والإحباط؟ كيف يفجر أسئلته وكيف يؤثر؟)؛ وهو ما يولد قصيدة مهمومة بصناعة واقع جديد وحلم أكبر.
حاوره : المغيرة حسين حربية
*لماذا على الشاعر أن يهرق كل هذا الليل، لأجل أن يتنفس، لماذا عليه أن يحطم المجرات والمدن الكبيرة غير المأهولة بأحد، ويسمي التاريخ باللغة النزقة؟
دعني أقول بلا مواربة، إنّ لا يقين يمكنه أن يملأ قلب الشاعر، ولا حب يكفي امتدادات القصيدة، لتسكن أو تهدأ. عليها دائماً أن تهدم البؤس القابع بشكله المدني، وكذلك الموروث بملامحه المتخلِّفة. وحتى ذلك الذي يتخلق في جهة ما، قابل لحساسية الشاعر وقلقه المستمر، في استغراق الوقت كي ينجو من الأبد, عليه أن يحطم كل قيد وينسف كل سجن, يحفر بمعاول إبداعه المختلفة في أديم تربة اللغة, يدحض لغات أخرى وينشئ لغات تخصه، تخص تاريخه وليله ومدينته (ذاته)، ومن ثم يأتي الآخرون بمختلف صبغاتهم وميولاتهم.
إذاً.. هو ليس تعبيراً بلاغياً ومجازياً وجمالياً إن شئت فحسب؛ إنما صيغ متمردة دائماً على واقع ما وجودي، لأنه ليست ثمة يقينيات كما أسلفت، يمكن أن يركن إليها الشاعر، ولا تطمينات جاهزة لتقيه شر الخسارات الهائلة وتحميه من رعب الألم. يجب أن يكون دائماً داخل هذه المعمعة وليس خارجها, ضحيتها بالضرورة وليس صانعها, خلاصها وليس مخلصها، ونارها ليس هدأتها وبرودتها. وهكذا عليه أن يهرق الليل لأجل أن يتنفس ويقول: (ها أنا أتخلص من وجع النهار). عليه أن يحطم المجرات، ولا يستسلم لجرح الذاكرة المثقوبة، بسكاكين الأساطير والخرافات.
* يريد الشاعر أن يطلق عقال الكون، أن يصعق شجرة أنيسة وداجنة. ينفخ في القبور ليقوم الموتى إلى حفل ماجن، يبشر بالمروق الأبدي. لماذا كل هذا الضلال وتلك الغواية؟
الشعر هو الذي يريد, لأنه ببساطة هو العالم, والعالم بوصفه نصاً هو حزمة الأسئلة الوجودية، التي قطعاً لا إجابات نهائية بالنسبة لها, والشعر ضد النهايات, وخلافاً لما هو سائد، يظل يطلق عنان خياله، ويجوب آفاقاً بعيدة عن المدرك, ويدك أحصنة عاتية على جيوش الفنون الأخرى. القصيدة تختار دربها أولاً، ورفيقها الشاعر أو هكذا أظن. ليس دقيقاً أن نصف الشعر بالضلال والغواية، بمجرد نبشه لجثة عالم، وتحريكه لثابت كاد أن يكون مقدساً. مثلاً, من الممكن أن نصف شاعراً ما بالغاوي أو الضال، لأنه نكص العهد في مسيرة الشعر، وجبن في ارتياد عوالم أخرى وفي اختراق تابوهات خالدة. خلق الشاعر ليدحض مسلمات الآخرين، ويحيل لغتهم إلى قاموس مشفر، لا يدركه إلا من يبشر بهذا الخروج الأبدي.
*صحيح، الشعر نفسه غير بريء، أفهم أنه ارتطامات هائلة في قلب الشاعر، بالأحرى حرب المنبوذين ضد كل ما هو أفلاطوني. كيف تفهم الشعر أنت؟
بالنسبة لي فإن هنالك العديد من الخطابات والتصورات التي تسعى دائماً إما لتفسير العالم أو تأويله، منها الخطاب الأيديولوجي والخطاب اللاهوتي والخطاب الإبداعي. الشعر بوصفه جزءاً مهماً من الخطاب الإبداعي، يجب دائماً أن يكون متقدماً على بقية الخطابات بما فيها الفلسفي، وهو يسعى دائماً لفتح الأفق الإنساني باتجاه تفسيراته الجمالية وتأويلاته المطلقة بالضرورة. أعني أنه يستطيع شحذ الوجدان ودفعه لتحريك عالمه الخاص، وبالتالي عوالم الآخرين الخاصة، وبالتالي يكون سداً منيعاً ضد اختراقات الأيدولوجي واللاهوتي.
* لحظة الكتابة؟
أينما يسرقك المهمل في ظلام الدروب, وكيفما تتقاذفك الفجيعة من كل صوب شارع أو حدب بيت, ففي رأسك المفخخ باضطراب اللحظة المعدومة مسجياً على لوح المشاهدة المنفلتة، طريداً من كل مجال عاقل، ومن كل رحابة وطن منكوب, تقودك الخطى الصامتة وسلاسل العمى إلى نزهة مشروخة وحوار مبتور بينك وبينك, وبينك وبين الآخر المتخيل، في رصيف الفجور وبينكم والنهر الغارق في غموض الجثث العابرة، بين ضفة الأسئلة وصخرة التأمل؛ لحظتها تبدأ القصيدة في المشاغبة وتخلق طقسها الخاص, تبدأ بشحنة ضحاياها بلغة تدربت بسكين النسيان، كي تؤسس لبيت ذاكرة جديد.
*وهل يدلف القارئ أثناء كتابتها، هل له الحق أن يحضر، هل تفكر به؟
أفكر دائماً بالقارئ الشاعر, القارئ الكاتب, صاحب الذائقة التي تحرسك, وتسألك عن حقيقة حرق المعنى في اللحظة نفسها, أفكر به وأحسه يطأ معي جمرة معلقة بين الأرض المطمورة والفضاء المسكون باليأس والتوابيت, يجب أن يشاركني تحطيم طاولة المجالس فوق رؤوس الشهود النائمين. أحياناً أترك له هذا النهب مشرقاً ليضيء ويبذر نجوى الوصايا على تلال مشيئة النص، معاً نخصب لغة الجدب ونزهر، وكلما تركني ومضى لسبيل حاله، أتبعه بسياط الطحن وصرخات القراصنة، لأن البحر لحظتها لي، والسماء بكامل حزنها جوهرة في يدي، وعيني لهب على جدار تتقافز من فوقه طيور البصيرة، التي لا تحطُّ على شجرة وإلا أغوتها شجرة أخرى.
*في واقعنا المحطم والبئيس، الحرب والفقر والديكتاتورية، الانهيار الشامل والمضاعف، ألا تظن أن ممارسة الكتابة ترف نخبوي معزول، خصوصاً بعد حضور قصيدة النثر، هل تراجع الشعر عن دوره الاجتماعي؟
حبر كثير جداً، قد أُريق حول هذا الموضوع. أنا بدوري أقول: ليس هنالك ثابت في القيم الجمالية وبالتالي الاجتماعية؛ فقصيدة النثر وجدت لظروف موضوعية، فالتغيرات التي طرأت على مجمل أشكال الفنون صاحبتها تغيرات في الواقع الثقافي والاجتماعي، وسبقتها أحياناً؛ لذلك أقول إن قصيدة النثر موجودة في قلب المعركة، معركة التغيير الاجتماعي والثقافي، ولها دورها الواضح والكبير في ذلك، هذا في ما يخص الجزء الثاني من سؤالك. أما مسألة الكتابة الإبداعية، كترف في واقع كالراهن السوداني المليء بحروبه وفقره وعوزه، فلا أعتقد أننا نستطيع الإحساس بذلك دون كتابة إبداعية واعية وملامسة لهذه الإشكالات. من الظلم بمكان أن نلقي صفة الترف هكذا دون مبرر, ما لم تكن هذه المقولة لها أجندتها وأهدافها, وبالتالي تتحول إلى أو تنتقل لخانة الصراع السياسي. سيكون الواقع أكثر بؤساً وأكثر دماراً وميتاً كلياً، لو ركنَّا لهامشية الكتابة، وترف الشعر تحديداً.
*تكتنف المشهد الشعري، والثقافي عموماً، حروب الإزاحة الضارية، القتال على اللاشيء، مليشيا الشلليات المغلقة، لماذا؟ وبرأيك هل يقوم المثقف بدوره المرجو؟
حالة التشظي التي باتت سمة بارزة بين الجماعات الثقافية، أربكت المشهد برمته، وصارت شبيهة بحالة المشهد السياسي، ولن أقول سراً إذا قلت إن حالة الاستقطاب والتباين السياسي، ألقت للأسف بظلالها على مجمل المشهد الثقافي بمؤسساته المدجَّنة والهشَّة. أنا هنا لا أبرِّئ الثقافي من حالة الضعف والوهن التي تعتريه، من جراء إفرازات عدة، منها حالة الكسل والخمول في إنتاج المعرفة، والتأسيس لمشروع ثقافي وطني حقيقي, بالإضافة للحروب والخصومات الشخصية، الناتجة عن سوء الفهم والتنافس غير المبرر في حقول لا تخص المثقف بصلة، ولا تخدم قضية الثقافة وغيرها من الأسباب, التي أقعدت المثقف عن القيام بدوره الحقيقي في عملية التغيير. هذا يقودني إلى أن المصطلح بات في حاجة إلى إعادة تعريف، فثمة مثقفون كثر بتعريفات كثيرة. نحتاج إلى تعريف جديد لمثقف التغيير من هو؟ وكيف يفكر في واقع مأزوم؟ كيف يحلل في مشهد يكتنفه التشظي والإحباط؟ وكيف يستطيع أن يقدم وصفته العلاجية الناجعة؟ كيف يفجر أسئلته وكيف يؤثر؟. الكثير من (اللماذات) تملأ جمجمته، ولا تجد طريقاً لها في عملية التطور والتغيير. أقولها بكل صراحة ووضوح، إننا في السودان نحتاج بشدة لمثقف التغيير هذا, المثقف الذي يدرك جيداً دوره في قيادة الجماهير بقوة المبادرة، قاطعاً الطريق على السياسي والانتهازي، الذي لا يرى المستقبل، وحتى مفهوم التغيير نفسه يحتاج إلى إعادة تعريف، فتغيير المفاهيم في حد ذاته بالنسبة لي -ومن وجهة نظر خاصة جداً- يحتاج تعريفاً على ضوء ما شهدته الساحة العربية من تحولات دراميتيكية تحت عنوان التغيير، أو ما يسمى جزافاً بالربيع العربي، إذ نجد أن المفهوم بهذه الوتيرة تاريخياً عندنا – لو سلمنا مجازاً – بانتمائنا إلى بنية الثقافة العربية الإسلامية؛ نجده عنصراً عضوياً في كل مراحل التطور التاريخي لثقافتنا وتراثنا، وقد عبَّر عن نفسه دائماً بطريقة مباشرة بالتمرد والرفض لوعي السلطة القائمة وممارساتها، ولم يهتم بأمر المجتمع لأسباب عدة، ولعل أهمها تسليمه واعتقاده بانتماء المجتمع كليا للإسلام كدين، ونجد أن الذين تبنوا هذا المفهوم ركزوا على اشتراطين فقط: ينادي الأول بمزيد من الحقوق والحريات بلا أي شكل تنظيمي ودون الرغبة في تولي مهام سلطوية؛ والثاني منظم وتبنَّى مسألة الاستيلاء على السلطة، وفرض أيديولوجيته وخياراته، فالتجربة التاريخية تؤكد أن كلا الفريقين على امتداد تاريخيهما حوَّلا مفاهيم التغيير إلى حراك سياسي وسلطوي مسطح، ولم ينتبها إلى أسِّ الأزمة وجذورها في بنية العقل العربي، والأمثلة على ذلك كثيرة، إلا في حالات استثنائية وعابرة كحالة القرامطة والمعتزلة في التاريخ القديم، أما في التاريخ المعاصر فنجد أمثلة حية في مصر، مثلاً فترة عبد الناصر، وفي العراق وسوريا حالة حزب البعث العربي الاشتراكي، وفي ليبيا تنظيرات القذافي وغيرها.عليه فإنه لا يمكن اعتبار حالات الثورة أو التغيير حقيقية ومؤثرة، ما لم تقم على قطيعة صريحة مع الماضي، وكنس مفاهيمه البالية، وبالتالي يجب على الذين يتبنونها أن تتوفر فيهم مزايا ليبرالية وكونية في المقام الأول، وثانيها أن يتبنوا مفهوماً للتغيير شاملاً، ليس للسلطة السياسية فحسب؛ وإنما يأخذ معه بذات المستوى كل البنى والمؤسسات الثقافية والاجتماعية والدينية أيضاً بلا خوف أومواربة, فنحن نعلم جميعاً أن تفكك نظام الخلافة مثلاً قد قادنا إلى تكوين أنظمة متعددة ومستنسخة، وفقاً لحاجاتها ومصالحها الآنية، في حين أن نظام المجتمع ككل كما هو لا يتأثر إلا سلباً دينياً وعرقياً بحقوقه، وخاصة حقوق المرأة والإنسان، إذ تضعضع بصراعات السلطة السياسية، وتبنيها لمفاهيم ذات طبيعة انتهازية.إذن تبقى ضرورة تغيير المفاهيم ليست ثقافية وتاريخية فحسب، وإنما إنسانية، وضرورة أن يتبناها أولئك العقلانيون وأصحاب المعارف، وليس الانتهازيون أصحاب المصالح وعبدة الطغيان، كما يجب علينا هنا في السودان الاستفادة من مزالق الربيع العربي، التي أدت في النهاية إلى تغيير الوجوه بذات آليات الوحشية والإقصاء والتدمير، ولا بد من العمل المؤسس والمتأني لكيفية تغيير المفاهيم أولاً قبل الأنظمة والعقول قبل الوجوه.
*هل يمثل الفضاء الشبكي، الافتراضي عوضاً للنشر والكتاب المطبوع؟ كيف يختبر الشعر وجوده أمام الميديا الجديدة؟
مما لا شك فيه أن هنالك عالماً جديداً يتخلق، ومجتمعاتٍ شبكية تنمو لها خصائصها وتقاليدها وماضية في التكون والانصهار، وثقافة العولمة أو العولمة الثقافية، جزء أصيل في ديناميكا هذه التحولات المدهشة والمتسارعة، وبالتالي فإن مسألة النشر عموماً والكتاب الإلكتروني خاصة، في طريقها لتكون بشكل أو آخر بديلاً حقيقياً للكتاب الورقي، شئنا أم أبينا. أعتقد أن المسألة مسألة وقت لا غير, فمثلاً العديد من المكتبات في العالم الأول تمت إزاحتها لصالح المكتبة الإلكترونية، وهذه إشارة واضحة إلى أننا سنتقبل هذه المسألة في المستقبل القريب لطالما أن تكنولوجيا المعلومات، قد بدأت تأخذ وضعها في المجتمعات الأقل نمواً. إذاً عاصفة العولمة قادمة لاكتساح الواقع، وعلينا أن نتقبل ذلك ونهضم ما تفرزه ونتعامل معها، وفقاً لجدلية الأخذ والعطاء، في حدود التبادل والتوازن الحضارييْن. الشعر لا ينفصل عن عولمة الثقافة، وأعتقد أن النص (الميديوي) إن صحت هذه العبارة، أصبح له تأثيره الواضح وتفاعلاته الكبيرة في لحظة كتابته وتقديمه عبر الوسائط لملايين المتلقين، وهذه في حد ذاتها محمدة، علينا أن نتعامل معها باحترام ونقدر ذائقة المتلقي ونحترم تفاعله السلبي والإيجابي معاً.
*هل هناك ضرورة للشعر، هل يعبأ أحد أصلاً بالشعر والشعراء؟
الشعر ليس فناً مستحدثاً في الوجود, إنه قديم قدم المجتمعات، وهو الروح التي ما زالت تعكس مدى سعادة وخيبة أحوال الناس عبر التاريخ, فإذا كنا نثمن الدور العظيم للفلسفة والعلوم وبقية الفنون، فإنه من الحقيقة أن نقدر دور الشعر والشعراء في كل مراحل التاريخ وتطوره. كثيرون يرون في الشعر دوراً ترفيهياً وثانوياً، بل يذهب بعضهم إلى أنه هروب وإحباط، فهذا حديث يجافي الحقيقة ويزيف الواقع؛ فالشعر يفتح آفاقاً واسعة للتأمل والتفكير واستنتاج الأفكار، ويثري المخيلة الإنسانية بأبدع الصور, بالإضافة إلى أنه يُسهم في تطوير لغات البشر، فمن هنا تأتي أهميته بالخروج من مأزق الحياة إلى رؤى وأفكار جديدة، من شأنها أن تؤدي إلى تماسك المجتمع وتحضره.
(خاص بالبعيد)
* شاعر من السودان