أدبٌ سُوداني: مُهَمَّش؟ أم مُهَمِّش؟
تقرير: مأمون التلب – محمد بابكر*
يتساءل الكاتب الفرنسي تودروف في كتابه الشيّق (فتح أمريكا)* عن مغزى كلمة (اكتشاف)، التي كان يُردّدُها الإسبان، في غمرة دهشتهم بعثورهم على قارة أمريكا. هل يعني الأسبان – بحق السماء – أنها لم تنوجد قبل هذه الصدفة الجميلة؟! ونحن نتساءل، مع تودروف، هل حقاً تم تهميش قارة الأدب السودانية أم أن الإسبان ما زالو مُندهشين؟.
شهدنا، خلال العصور الطويلة السابقة، مناحات مستمرّة عن تهميش الأدب السوداني في ما يُسمَّى بـ “الثقافة العربية”، هذا “الجَمْع” السهل لثقافات أفريقية وآسيويّة خلف ستار لغة ودين؛ وأظهرت هذا المسرح العظيم الذي استبسلت فيه جميع هذه الثقافات من خلال لغةٍ واحدة؛ شهدنا المناحة المستمرة حول تغييب قارة الأدب السودانية. لماذا هي بالذات؟ هل لأنّ السودان لم “يُكتَشَف”، بالتعبير الذي سَخِرَ منه تودورف؟.
سحبان السواح يُقابَل بالصمت:
سحبان السواح يُقابل بالصمت الكاتب السوري، سحبان سواح -محرر مجلة (ألف) التي انطلقت في بدايات التسعينات- يبشر بعالمٍ جديدٍ يخرج من قارة الأدب السودانية تحت عنوان (هدية من السودان تتجاوز قرارات الأمم المتحدة)، في 6 سبتمبر 2004م، في سياق تعليقه على خمسة نصوص أرسلها لموقعه الشاعر محمد الصادق الحاج: (أتذكّر حين أصدرت مجلة (ألف) في العام 1991 من القرن الماضي، استطعت أن اكتشف كماً كبيراً جداً من الكُتّاب المبدعين الشباب الذين أثروا في الحياة الثقافية السورية والعربية فيما بعد، وكان منهم الكاتب المبدع عادل قصاص من السودان أيضاً، فتحية لعادل وتحية لعصام عبد الحفيظ الفنان التشكيلي من السودان أيضاً الذي كان يمدنا برسوماته التشكيلية المتميزة.
الآن ونحن في القرن الواحد والعشرين، صرت أجد صُعوبةً في ذلك، ولولا هؤلاء المُبدعين على قلّتهم الذين يرسلون أعمالهم الإبداعية لكان الموقع قد أعلن إفلاسه الآن، في حين أنه في العام 1991 وما بعد كنا نرفض أعمالاً بمستوى رفيع جداً فقط لأنها لا تحمل طابع الحداثة والتجديد الذي كنا نبحث عنه.
المفارقة أن سحبان لحظة كتابته لهذه الافتتاحيّة، كانت دولة سوريا، بلاده، مستقرّة، والبلدان “العربيّة” تعيش في عالمٍ ماضٍ نُسيَ اليوم تماماً مع ما تمّ من دمار، حيث يقول: [ما أنشره هو الأفضل، والكثير منه لا يقل أهميةً عن تلك النصوص السودانية التي أتحدث عنها. ولكن الفارق أن مُبدعي تلك النصوص يعيشون في بلاد لا حروب أهلية فيها، ولا مآسٍ ولا جوع ولا فقر ولا حصار، بينما ما جاء من السودان يُعتبر مُختلفاً.. يُعتبر حَدثاً يستحق التأريخ. هذه مجموعة من النصوص الإبداعية، التي لا تتحدث عن الحرب ولا عن دارفور ولا عن جنوب السودان والمآسي التي حدثت به ولا عن قرارات الأمم المتحدة بنشر قوات دولية في إقليم دارفور، بل هي تقول بكل بساطة: ها نحن هنا، مازلنا نعيش، ومازلنا موجودين، ومازلنا نتنفّس حرية]. انتهى…
عندما نُشرت هذه الافتتاحية، قام الشاعر الصادق الرضي بإعادة نشرها في ملحق هذه الصحيفة – السوداني – حيث كان يُشرف على قسمها الثقافي. ولكن الأغرب أن لا تُحدث هذه المقالة أيّ ردّ فعلٍ من النقاد والمهتمين بالشأن الثقافي، الأمر الذي وضعنا في موقفٍ حرجٍ مع كاتب المقال الذي توقّع ردود فعلٍ كبيرة على مقاله، وظلّ يسأل من حينٍ لحين: (ألم يكتب أحدٌ من كُتّابكم عن الأمر؟).
ذلك يذكّر بمقطعٍ من حوار مع الروائي محسن خالد، أوردته الكاتبة العمانية ليلى البلوشي في مقالٍ نتطرّق إليه لاحقاً ضمن هذا التقرير، يقول خالد: [بخصوص الساحة – النقدية – في السودان، هي بالتأكيد لن تفاجئ الساحة العالمية بابتكار مباغت، ربما معنا من النقَّاد العدد القليل، وهذه ليست الآفة ولا المشكلة، الآفة هي أنّ هذا العدد على قِلِّته يناقش كتاباً واحداً دون ملل، “موسم الهجرة إلى الشمال” إن أحببت أن أُسمّيه لك. هم بالطبع سينتظرون نُقّاد الخارج حتى يتناولوا أسماءً جديدة مثل: (أبّكر إسماعيل) أو (بركة ساكن) أو (محسن خالد)، ليأتوا هم بعد ذلك كالبكتيريا التي تعقب الطاعِم، فلا يخرجون إلا بما يخرج به متسقِّط الفضلات، وإن كانوا أذكياء بالفعل ومظلومين من قِبَل شخصٍ مستهبلٍ ومُتجنٍّ مثلي، فليلعبوا لعبة جديدة ومعاكسة لمرَّة واحدة في حياتهم]..
أسئلة مُهدَرة؟
من ذات الاتجاه، هل كان مُثيراً ومُنتِجَاً إهدار كلّ التحقيقات الصحفيّة في السودان وخارجه حول تهميش الأدب السوداني؟. هل الأدب السوداني في حاجة إلى اعتراف؟ وهل هو سودانيٌّ من الأساس أم إنساني؟. يرد محمد الصادق الحاج على هذا السؤال المطروح من قبل الأستاذ عيسى الحلو حول (الكتابة الجديدة في السودان) في حوارٍ نُشرَ بـ(الرأي العام) السودانية أبريل 2007م: [عطفاً على محاذير النظر إلى الفنون التعبيرية في حدود سياقاتها الجغرافية حصراً، فمما لا تنكره السلامة أن الكتابة، بأي اعتبار قيست، أجغرافياً أو وجودياً؛ زمنياً أو غيبياً، لم تكن، يوماً وأينما، بمعزل عن سلسلة التراكم الطويلة من المحاولات البشرية والملاحظات والمعلومات والبيانات وأعمال المشاركة والاتصال والتعبير التي أنجزها البشريُّون بعمر وجودهم، فلا هي محض (الكتابة الجديدة) ولا هي محض (جديدة) ولا هي (في السودان) بهذه البساطة. فإن احتكمت في لحظة إلى جِدَّتِها، فما ذلك إلا عملاً بواقع مفارقتها واختلافها، وحتى ذلك يتم من خلال اتصالها بمنجزات المعرفة الإنسانية ولجوئها إلى استخدام وسائط المشاركة التي تكمن جذورُ نشأتِها في القِدَم. وإن احتكمت إلى (في السودان) فَطَائِفٌ من العرفان بجميل يسهل التنكر له، وعلى السودان أن يفخر بأن أتيح له هذا الشرف. ليست (تجارب الكتابة الجديدة في السودان) لهواً يُزْجَرُ عنه؛ وليست مذهباً يذاد عنه بآلات منهجية. هي شيء مِنْ صُلْبِ الوجود البشري على هذا الكوكب بما هو طبيعي وفريد بذات المقدار. كتابةٌ، هي احتفاء بالشغفِ الأرضيِّ ورعشةِ الحياةِ ورعشةِ الموتِ وبغتةِ اللطمةِ والزمجرةِ الطَّرُوبِ والقَرْعِ الساخط المستنـزَف المستعِرِ العاوي على كل باب مفتوح لا يؤدي ولا يَستحقّ. كتابةٌ منحازة لحرية المحاولة والاختيار والاختلاف وقوة الممكن. كتابةٌ منحازة للبشري ضالاً في ظلمات غريزته وفي ظلمات عقله، سائراً على الأرض تحت أعراس الخيال والفيزياء، تهديه مساقط الممكن تحت جلده إلى بشريته، لا يَعِدُ بأقلِّ منها ولا يقبل أقَلَّ منها؛ تهديه إلى جذوته وحشيةً ومستأنسة. كتابة خاضعة لكل ضلال يريها طرفاً من المجهول].
انتصارات الخرطوم الثقافيّة
والسؤال عن (أين الأدب السوداني؟)، ومنذ تكراره بعد ثمانينات القرن الماضي، وإلى بدايات القرن العشرين، أصبح مُملاً بصورةٍ لا تُطاق. حتى السؤال عنه ضمن تحقيقات صحفيّة عربيّة، والاندهاش المُريب عندما تنال رواية سودانية جائزةً عربية أو أن يُترجم إلى لغاتٍ أخرى؛ كل ذلك يدفع بسؤال: إلى متى تنتظر الخرطوم، كعاصمة مُنتجة لثقافة مُغايرة ومتجددة؛ تنتظر الآخر ليمنَّ عليها ويُثبت وجودها؟
قبل التسعينيات كان الأدب السوداني حاضراً في المهرجانات العربية “القوميّة” إن صحَّ التعبير، وكان التواصل الشخصي قائماً بين الأدباء السودانيين وغيرهم من الكاتبين باللغة العربية، ولكن انقطاعاً حدث في التسعينيات، وانحصر الأدب السوداني داخلياً إلى أن بدأت اختراقات تحدث في الألفيّة الجديدة، والسبب معروف: ثورة التكنولوجيا.
أكثر من ذلك، استطاعت الساحة الثقافيّة السودانية في فترةٍ وجيزة أن تصنع مَنَابرَ ثقافيّة توسّعت لتضم كُتّاباً من بلدانٍ مختلفة؛ فقد أسس المهندس الطيب المشرف مع شعراء وكُتّاب من السودان، مجلة (البعيد) الإلكترونية؛ حيث يشرف على تحرير أبوابها الأحد عشر القاص والشاعر محفوظ بشرى، والشاعر حاتم الكناني والشاعر والناقد ياسر فايز، وأصبحت (البعيد) بعد عامٍ من تأسيسها، المنبر المفضل لمجموعة كبيرة من كُتّاب العربية والقراء، واستطاع الموقع أن ينال شهادة اعتماد من الاتحاد العربي للصحافة الإلكترونية، حيث جاء في الشهادة أن الموقع (اجتاز التقييم التحريري والتقني طبقاً للقواعد والإجراءات المعمول بها بناءً على نص اللائحة الداخلية للاتحاد عن العام 2015 – 2016م). وعن صحيفة “اليوم التالي” نقرأ عن الموقع: ((البعيد) مجلة إلكترونية مُختصة بنشر الأدب، يشرف على إدارتها وتحريرها مجموعة من المبدعين الشباب، تعتمد في نشر موادها على الجدة والحداثة، كما تأخذ خطاً تحريرياً واضحاً بالتزام القيمة الإبداعية والمعرفية للنصوص المنشورة بغض النظر عن أسماء الكُتّاب أو أجيالهم أو ميولاتهم وتصنيفاتهم السياسية، والأيدولوجية أو حتى جنسياتهم؛ فرغم أنّها مجلة سُودانية في الأساس وتستهدف المبدع السوداني أولاً، إلاّ أنّ صفحاتها متاحة للمُبدعين والكُتّاب من كل أنحاء الدنيا كافة. والمجلة في فترتها الوجيزة هذه نشرت مئات النصوص لعشرات الكُتّاب وفي مختلف ضروب الإبداع، واستطاعت أن توصل صوتها وتحقق انتشاراً كبيراً بين القراء والكُتّاب داخل السودان وخارجه، وتسد بشكل كبير الفراغ (الثقافي) الذي أحدثه غياب الدورية المُتخصِّصة، سيما داخل السودان.
تفصيلياً نشرت (البعيد) منذ تأسيسها في أبريل الماضي وحتى الآن أكثر من ثلاثمائة وخمس وسبعين مادة لأكثر من مئة وتسعين كاتباً؛ تتنوع المواد المنشورة بين النصوص الشعرية والسردية (قصة قصيرة، رواية وسيرة)، والحوارات والكتابات النقدية، النشر باللغة الإنجليزية، الأخبار إضافةً إلى تخصيص زوايا للتشكيل والصورة والسينما، بما يعني أنها مجلة ثقافية شاملة تغطي ضروب الثقافة كافة داخل السودان (بشكل خاص وخارجه). وبعد عامٍ من تأسيسها زار (البعيد) خلال هذه الفترة القصيرة أكثر من ثلاثين ألف زائر وتم تصفحها بما يعادل مئة وستين ألف متصفح، وهذان الرقمان بحسابات التصفح الإلكتروني يعكسان حجم النجاح الذي حققته المجلة، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أنها مجلة أدبية متخصصة).
“اليوم التالي 28 يناير 2015م”.
كذلك استطاعت مجلة (إكسير) الأدبيّة، وتطبع ورقيّاً، أن تستمر بمجهودات فرديّة وبدعمِ أصدقاء المجلة، لتصدر ثلاثة أعداد عبارة عن مجلدات ضخمة نُشرت فيها نصوص وكتابات وترجمات لأكثر من 150 كاتباً وكاتبة من السودان، وتستعد حالياً – حسب المصادر – لإخراج العدد الرابع، يترافق معه صدور كتاب مترجم عن المجلة ذاتها. مجلة (إكسير) كوّنت تياراً كتابيّاً جارفاً دفعت بالمترجم والكاتب رافييل كورماك لتسميته بـ (جيل الإكسير)، حيث يقول في حوارٍ تُرجم ونُشر في (الممر) قبل أسبوعين حول صدور كتاب الخرطوم – نصوص سودانية مترجمة إلى الإنجليزية في ردّه حول “شعريّة” أحد النصوص: [مجموعة كبيرة من الكُتّاب السودانيين انخرطوا في القصص الشعرية أكثر من القصص القصيرة. إنهم يختبرون شكل الكتابة. نسميهم “جيل الإكسير” لأن جميعهم درج على النشر في مجلة تدعى “إكسير”، والآن ينشرون على موقع إلكتروني يُسمَّى “البعيد” وهو موقع جيد حقاً. تفسيري هو أنهم يجددون الأدب العربي بصورةٍ ما. “الثيمات” ذاتها صعبة الوصول قليلاً وأسلوب الكتابة صعب أيضاً. موضوعياً هم على الأغلب خارج العالم أو خارقون، لكنه ليس أمراً يشبه المنازل المصطادة، بل أكثر ميتافيزيقيةً]. وحول كتاب الخرطوم كأول أنطولوجيا سودانية للقصص القصيرة تُترجم إلى الإنجليزيّة: [عادة ما يُهمَل السودان في العالم العربي فيما يتعلق بالاختيارات، كما يتم إهماله أيضاً في المقتطفات الأدبية الأفريقية].
غير ذلك فقد أُنجزت منابر ثقافيّة جديدة خلال العام الماضي، نذكر منها مجلة (منشور)، و(الحداثة)، إضافةً إلى منابر مُستمرة كمُنتدى مُشافهة النص الشعري. وافتُتِحت مكتبات بيع الكتب في وسط الخرطوم، وأُضيفت إلى القلة القليلة التي كانت مُتواجدة؛ حيث دخلت دار مدارك بمكتبة، ومكتبة الوراقين الثقافيّة، ودار المصورات للنشر والتوزيع. لقد أصبحت كلمة (صدر في الخرطوم) كلمة عاديّة مؤخراً، وهذه قفزة نوعيّة فعلاً.
كذلك لعب معرض (مفروش) لبيع وتبادل الكتاب المستعمل، دوراً مُهمّاً ومحوريّاً في إنعاش حركة الكتاب في الخرطوم، وهو المعرض الذي كانت تُنظِّمه وتشرف عليه جماعة عمل الثقافيّة، والذي تم إيقافه لدواعٍ إجرائيّة جدّاً من قبل مجلس المصنفات الأدبية والفنيّة. ورغم المُطالبات المُستمرة في الصحف ووسائط التواصل الاجتماعي، ورغم مُحاولات جماعة عمل في التواصل مع وزارة الثقافة، إلا أن أمر تعليقه لم يتحرّك قط.
مع ذلك، فقد كثر الحديث كذلك عن إحجام الكاتب السوداني، عموماً، عن الترويج لنفسه و”تسويقها”، ولكن من النشاط الذي ساد في العشرية الأخيرة فإن هذا الاتهام يبطل تماماً، ويبقى منه تأفف الكاتب السوداني من (التسويق) بالمعنى “السوقي” للكلمة. ومع الثورة التكنولوجية فإن منطق (الاعتراف) الخارجي كذلك يفقد بريقه. قالت الكاتبة العمانية ليلى البلوشي في مقالٍ كتبته في 14 نوفمبر 2014م، بعد أن تعرفت في الشبكة العنكبوتية على الروائي عبد العزيز بركة ساكن، ومن بعده على العديد من الأسماء، وجاء تحت عنوان (الأدب السوداني أنضجته الشمس وغافلته الريح)؛ تقول عن الكتاب السودانيين [الملاحظ أن الشمس أنضجت إبداعاتهم بشكل جيد، وما الدور سوى على الريح الكسول أن تنثر عبقها الرائق إلى أقطار شتى في العالم العربي، فهنالك نصوص مشبعة بالمتعة والإبداع والابتكار تستحق أن تقرأ حقاً، ومنحهم صك الاعتراف ليس فعلاً جباراً؛ لأننا بكبسة زر واحدة نجمع حصيلة لا بأس بها من قصص وروايات منشورة في خفايا الشبكة العنكبوتية، وهذا هو غرض المقال في حد ذاته].
* نُشر بملف الممر الثقافي الذي يصدر صباح كل جمعة بجريدة ( السوداني).