حيوات تائهة
في صباح يوم ما، من صباحات الدنيا الكثيرة، كانت هناك محطة قطار ومنتظرون، وكان العام 1970، فيما هبَّت نسمة من نسمات صباح الخامس من مايو، نسمة صيفية داعبت وجوه المسافرين بمحطة الخرطوم، أم تحمل طفلها تنتظر من الأمس، أم شابة تريد الذهاب لوادي حلفا، حيث رهط تبقى دون أن يهاجر الهجرة المشؤومة في عهد عبود. حفنة من شباب قد صحوا للتو ويظن أنهم مسافرون فى رحلة إلىمصر، وقد تناولوا قدراً من شراب العرقي قبل قدومهم المحطة الساعة السابعة مساءً، وشيخ قد فتح الراديو على الإذاعة وهو يسمع للمقرئ صديق أحمد حمدون، بعض آيات الذكر الحكيم، وتضج المحطة بآخرين غيرهم، وفيما تضج الخرطوم تلك الأيام بإعدادات العيد الأول لثورة مايو في الخامس والعشرين، كان كل شيء واضحاً حينها، القطار سيتحرك بعد ساعة، لا بد لكل امرأة أن تذهب لدورات المياه ليفرغ أبناءها ما في أحشائهم أو يتبولوا، لا بد للفتية السكارى أن يتناولوا قهوة صباحية، تدعهم يفيقون.. وتكاسي الخرطوم البرتقالية التي تقوم بنقل المسافرين من شتى أنحاء العاصمة، تحضر منذ تلك اللحظة. يروي صديقي في ذاك الجو السبعيني الغريب عن ما يجري في العشرة الثانية من الألفية، أنه كان ابن تلك الأم الحلفاوية الشابة الجميلة، التي كانت تنتظر، وقد اشترت له بسكويتاً بطعم الحليب، لا زال طعمه عالقاً بذاكرته، يدعى بسكويت ساتي، وفيما قال: كانت أمي تحب وردي، وحتى أن الإذاعة بثت بعد تلاوة الشيخ أحمد حمدون أغنية “أول غرام”، فظلت أمي صامتة تستمع حتى أني تأثرت لذاك الصوت الجميل معها، لكني لم أنتبه كثيراً، كنت أفكر في البسكويت أكثر من الصوت، وإخوتي الكبار كانوا يحتضنوني ويغرونني بأكل البسكويت. يقول: ماتت أمي في تلك الرحلةإلىالشمال، جراء مرض الملاريا، ولم أهنأ بدفء الأمومة بطفولتي معها كثيراً، لكن تلك اللحظة لم تبرح خيالي.. لحظة سبعينية تتردد كصدى عبر السنوات، ووجه أمي بالنسبة لي لم يكن أوضح كما تلك اللحظة، وأظن أنها لو عاشت لم يتكرر ذاك الوضوح، فصرت أكثر رهافة من إخوتي، باحثا عنها في وجوه الأخريات، باحثاً عن روح أكثر من وجه فيما يبدو، روح تقودني وأبحث عنها.. وفي منتصف الثمانينيات، عدت يوماً للمحطة أطلب السفر شاباً مراهقاً حينها، وجلست في ذات المصطبة التي جلست فيها العائلة ذاك اليوم تنتظر القطار، تماماً كما جرى قبل ثمانية عشر عاماً، وكنت أنظر بهيام لكل فتاة تمر بي، علي أحكي لها حزن السنين فقداً تم بعد ذاك الصباح المايوي البهيج، فجلست بجواري امرأة شابة تحاول السيطرة على أطفالها المشاغبين وبدأت بعد أن هدأت الأحوال تحكي لي كيف تسافر كل عام بأبنائها لوادي حلفا كي لا ينسوا جذورهم، وناولتني إفطاراً مبكراً من وجبات أعدتها قبل القدوم للمحطة، كانت بيضاً وفلافل طيبة تناولتها وسألتها عن زوجها، ذرفت دمعة وقالت: مات منذ عام، كان ضابطاً، وفي معارك الجنوب فقدناه، ثم صمت.. ليقول لي: كانت روح أمي ترف حينها، وأمرتني أن تكون تلك زوجتي، وكأني أخمن أن زوجتي التي تكبرني بستة أعوام رفت روح زوجها في ذات اللحظة لتباركني لها زوجاً يرعى أبناءها؛ كنت أصغر من أن أتحمل تلك المسؤولية أو أتحمل زواجاً أصلاً، لكن عندما وصلنا البلد، اكتشفت أنها تسكن قرب بيت جدتي، وأصابتها الملاريا، ولم يجدوا غيرى لأخذ “الحقنة”، وعندما افترقنا عند المحطة لم أكن أعرف وجهتها سوى أنها اختفت وفي ذاكرتي يومي سفر، أبديت فيهما شهامة بمساعدة تلك الأرملة الجميلة، بمناولتها حاجياتها من المحطات أو إنزال أطفالها للتبول أو التغوط حتى، وعندما نزلت وودعتني نظرت إليّ بامتنان، فأحببتها وتذكرت أمي، ثم ذهبت فتذكرت حينها شعوراً انتابني صبيحة موت أمي بأني وحيد وضائع، رغم أن إخوتي يحفونني وهم يبكون، وعندما قدمت جدتي بعد أسبوع لتقول إن ناس أحمد همت لديهم ابنة مصابة بالملاريا، اذهب واحقنها، قلبي خفق قليلاً، وكانت قد وعدتهم بأن حفيدها يصلح في هذه المهمة، وأنه خجول ومهذب، ولم تصدق أنه أنا عندما رأتني وأحجمت أن أكشف منها جزءاً خاصاً ولو لعلاجها، لكني كنت في عرض البحر ولا رجعة، وعندما انكشفت قليلاً في مخدعها الخاص تأثرت قائلاً في نفسي: أي قدر يجعل امراة شابة بضة كهذه تصير أرملة، لكني استعدت إيماني وجأشي وحقنتها، وبعد ذلك عرفني أطفالها فصاروا أصدقائي صداقة الطفل للناضج، وعائلتها أيضاً صارت تثق بي بعد رواية قصة شهامة الرحلة لهم، وأرى جسمها البض طيلة الأيام الخمسة، وكانت تحس بتأثري وتجشمي الحشمةإلىأن تدمع عيناي.. وفي اليوم الأخير قالت لي بخبث أنثوي: لا عليك، رغم أنني ظللت الليل بطوله أمتحن معاني عدة للعبارة والبسمة فلم أجد شيئاً.. فطلبتها، فكان زواجي بها، وأبناؤها صاروا أبنائي وكانت أمي.. في أول ليلة لنا.. نمت بعد خصوصيتنا، فحلمت بطيف أمي قرب تلك المصطبة بمحطة الخرطوم وبجواري زوجتي لتشكرنا وتمضي.
* كاتب من السودان