رواية شاورما ..( قراءة عامة وملاحظات نقدية )
“شاورما” رواية يرسم خلالها عماد البليك مشهداً مليئاً بالأحداث والتفاصيل المتداخلة عن المشكلات والتحولات السياسية والاجتماعية في السودان، عبر ثلاث حقب زمنية متعاقبة ، تبدأ بالعهد المايوي ، مروراً بفترة الديمقراطية الثالثة التي جاءت بعد انتفاضة ابريل، وصولاً إلى فترة الانقاذ الحالية التي شهدت انقسام السودان إلى شطرين.
تحكي الرواية عن قصة كفاح إنساني لصبي يفر من اسرته الفقيرة إلى وجهة مجهولة ، لتتبناه أسرة تركية تعيش في الخرطوم ، بعد معاناة ، يتبدل حاله ويصير من وجهاء المدينة المعروفين بعد أن اشتغل في مطعم لـلـ (شاورما) تملكه الاسرة.
ويقول البليك حول (شاورما) .. “هي سيرة كفاح إنساني في رحلة قام بها صبي فراراً من عائلته المفككة إلى أن تبنته أسرة تركية في الخرطوم ليصير بعدها من وجهاء المجتمع، غير إنها رحلة طويلة ومعقدة جداً ولم تكن سهلة ، كما أنها تحاول أن تصور كيف يمكن للإنسان ان يصل من الحضيض الى القمة اعتماداً على قدراته وثقته بذاته ومهاراته وكيف يتعلم من مدرسة الحياة”.
اتبع الكاتب أسلوب السرد الكلاسيكي ، واختار شخوص الرواية بعناية ودقة ، وترك مهمة التسمية للقارئ بعد ان حرص على اخفاء أسماء الشخوص والامكنة، ليزيد بذلك من حدة الاثارة، وتناول الكاتب التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مر بها المجتمع السوداني خلال الحقب المذكورة، وتأثيراتها على الناس وحيواتهم، وانعكاس ذلك على مجمل الحياة في البلد المضطرب ، كما تطرق لقضايا اجتماعية ماثلة مثل التشرد والتفكك الاسري، والتحرش الجنسي بالأطفال وخلافه.
شاورما جاءت في أسلوب سردي جميل وسلس ومشوق . تم إعداد وحبكة مواضيعها بمهارة ودقة فائقتين، تجسدان موهبة وجمال نفس الكاتب في تصوير وتفسير الاحداث، ووضع الاستنتاجات وتوظيف الظروف السابقة والآنية بعناية في عمل أدبي، وجهزت مادتها في قالب كلاسيكي يندر هذه الايام .. .. تكمل قراءة صفحة أو اثنتين، فتجد نفسك متحمساً لالتهام الصفحات التالية في شهية مفتوحة دائماً، مثل شاب قروي يتذوق لأول مرة طعم “الشاورما” في كافتريات المدينة الكبيرة.
(152) صفحة لخص وناقش فيها الكاتب مراحل فاصلة من تاريخ السودان ، وتطرق للتحولات والتغيرات التي شهدتها البلاد، إذ تحدث عن الحرب والمجاعة والانقلابات، والانتهازية والجشع، كما تناول ظواهر اجتماعية مختلفة يعاني المجتمع للفكاك منها.
جنوب السودان أيضاً كان حاضراً في أكثر من موقع بالرواية ، إذ تجد سنوات الحرب والالم والمجاعة ، والجهاد الذي كانت تنادي به جماعات الإسلام السياسي ضد أعداء الدين في الشطر الجنوبي من البلاد، وكذلك تجد ذاك الطفل الجنوبي المشرد الذي يلتقي عن طريق المصادفة مع بطل الرواية في اسواق المدينة فيصيران صديقان يتقاسمان السكن قبل أن يرحل الأخير للاستقرار والعمل مع العم التركي صاحب مكان “الشاورما” بينما يتجه الأول عائدا إلى الجنوب للقتال دفاعاً عن أرضه، كذلك تتوقف عند الفتاة الآبنوسية السمراء الجميلة التي كانت تعمل في الكنيسة ومن ثم تغادر فجأة لتدرس السياسة في الولايات المتحدة الامريكية وتعود خفاء لتلتقي ببطل الرواية بعد سنوات ويبدو انها انضمت للمناوئين للحكومة : ((جاء النهار وأنا اجلس بالمحل الجديد، الذي صار قديماً، ساعة وقفت أمامي امرأة ناضجة .. شابة قوية جسورة .. عرفتها للتو بلونها الأسمر وزيها المرسوم بالألوان المطرزة الزاهية ، كانت قد كبرت بعض الشيء … الخ)) .. ويتحدث الكاتب أيضا عن التوقيع على اتفاقية السلام والصعوبات التي واجهت تنفيذها وكادت أن تؤدي لإشعال حرب جديدة في البلاد وبحسرة عن سماح البرلمان السوداني للجنوبيين بقيام الاستفتاء لتقرير مصيرهم بين البقاء في دولة السودان الواحد أو الانفصال وتأسيس دولة جديدة خاصة بهم ((الصقر الجارح بدلا عن ذلك كان يتحدث في البرلمان في مساء يوم الدفن، كان المعزون يتحدثون عن خطابه الذي أعلن فيه أنه سمح للجنوبيين، بإجراء استفتاء على تقسيم البلاد، إن شاءوا بأن يكون لهم بلد خاص بهم)) .. تلك باختصار أبرز النقاط التي اشارت في الرواية إلى الجنوب والجنوبيين، وان لم يغص فيها الكاتب عميقا، وحرصت على التطرق لها في مساحة منفصلة لتبيان شمولية الرواية وهي تتحدث عن التحولات السياسية في سودان المليون ميل مربع عبر ثلاثة حقب متلاحقة.
وأذكر القارئ أن رأيي هذا ليست نقداً للرواية بالضرورة ، فنحن أمام عمل أدبي من طراز رفيع يتفرد بلغة وأسلوب سردي مريح للقارئ ، وتستحق أن تفرد لها مساحات أوسع للنقاش، وليست مجرد قراءة عابرة ، واعتبرها من ضمن أفضل الروايات السودانية التي صدرت في السنوات الأخيرة، وهي بلا شك وجبة دسمة سيلتهمها القارئ السوداني بنهم وشهية مفتوحة دائماً.
* كاتب من جنوب السودان
* تم النشر تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تُصدره جريدة الموقف بجنوب السودان