ثمار

الأسيرة

 من أعمال غاي ديننيغ
من أعمال غاي ديننيغ

الليل أرخى سدوله والكون غارقٌ في التسبيح، وهي تقفُ خلف نافذة منزلها العتيق المتهالك ترنو ببصرها نحو السماء، مُمسكة بيد قضبان النافذة، والأخرى أسندتها إلى الجدار، كانت تحرك أصابعها كأنها تحاول أن تتحسس شيئًا ما، خارج المدار الذي تقبعُ فيه. نظراتها الجزلى كانت كنظرات طائر خلق ليحلق في الفضاء لكنهُ وضع داخل قفص ليمتع سجانه برؤيته، نظرات سجين بريء، كل الأدلة كانت تُشير إلى أنه الجاني، وكأن العالم لم يعتد التزوير وشهادة الزور إزاء من لا حيلة له، كل القضية أنها كانت هناك.

فهل من الخطيئة أن نوجد في هذا العالم بلا إرادة منا في الوجود؟!

كانت لا ترى من خلف القضبان إلاّ بقدر ما يصل مد بصرها، لكن الروح ترى أكثر مما ترى العين. لم تقوَ على أن تقف أكثر، فتهاوت على كرسيها القديم، وبوهنٍ شديدٍ نهضت من جديد، حملت صحيفة قديمة مُصفَّرة الأوراق مما يدل على تقادم الزمن عليها كانت موضوعة على السرير الذي تستلقي عليه، وتسرَّبت إلى أنفها رائحة دخان ناجم عن حريق فشعرت بالضيق، لكنها لم تكن تعلم حقيقة مصدر الرائحة، بدأت تحرك الصّحيفة يمنةً ويسرةً أمام وجهها علها تُبعد تلك الرائحة، لكنها كانت تزداد رويداً، رويداً حتى بدأت تسعل بشدة، فنهضت مُستجمعة قواها متوجهةً نحو النافذة ملصقة وجهها بقضبانها حتى تستنشق الهواء.

أنفاسها تتلاحق بسرعة، وبدت غير قادرة على التنفس، ألقت نظرة حزينة على المكان وطفقت تبكي، وتنتحب مدة من الوقت، نظرت صوب الباب الموصد عليها، كفكفت دمعها، وبوجلٍ شديدٍ تَوَجّهت نحو الباب، وطرقت ثلاث طرقات وقفلت راجعةً إلى الوراء بضع خطوات. سمعت وقع أقدام قرب الباب، وصوت فتح القفل، وبرز لها من خلف الباب رجل بدت من ملامحه الشراسة، مكفهر الوجه، قال بسخط:

– ماذا تريدين؟ قالت وهي تنظر إليه نظراتٍ ملؤها الألم:

– أريد أن تمنحني بعض الوقت في الخارج. قال وهو يعود إلى الوراء ليوصِّدَ الباب خلفه:

– تباً لك من امرأة عجوز، لن تخرجي، لم تُخلقي إلا لتكوني هنا، أم تراك تظنين نفسك إنساناً، لا تحاولي. طفقت تبكي وقالت: أرجوك، إني بالكاد أتنفس، قليلاً فقط، قليلاً من الهواء إن رائحة الدخان تقتلني إنها لا تفارق الغرفة مذ ألقيتموني هنا، إني أختنق، قال في نفسه:

– أتراها جُنت، إني لا أشتم أية رائحة، فقال لها:

– أنتِ تكذبين إني لا أشتم شيئًا، لن تخرجي، و……

صمت هنيهة، عندما بدأت تسعُل، وتتلاحق أنفاسها حتى اتكأت على الجدار، نظر إليها ملياً وقال:

– هيه أنت، فنظرت إليه ولكأنها لمحت شيئاً في عينيه، لكنه قَطب حَاجبيه وقال:

– حسنًا اخرجي لكن، توقفي سأضع هذه القيود على رجليك حتى لا تتمكني من الفرار، امتثلت المرأة العجوز ولزمت الصمت. تحاملت على نفسها لتسير، إضافةً لضعفها ووهنها كانت القيود تشل من حركتها، لكنها واصلت حتى خرجت. نظر إليها الرجل بازدراء وقال:

– أتذكرين ما كنت ترددين على مسامعنا في حياتك التي خلت، قهقه الرجل قائلاً بسخرية:

– تحدثت عن تغيير العالم أو شيء كهذا، وأطلق مجدداً ضحكاته وقفل راجعاً. همهمت قائلة:

– إني أفعلُ ذلك الآن، لعلك لا تدري أن أولئك المكبلين بالسلاسل والقيود كانوا هم الأقدر على التغيير، الأقدر على البقاء، لعلك لا تجيد قراءة التاريخ والوقائع، الأعمى يرى أكثر مما يرى المُبصرون، رؤية تتجاوز مدى الإبصار، تنفذ إلى أعماق الروح، أتراك سمعت بهيلين كيلر، مانديلا، غاندي، روزا لويس…؟! كانوا هم الخالدون، فما عسانا نطلب سوى الخلود على الأرض من بعد الممات؟. كيف لمستعبد مثلك أن يصدر له صوتٌ، وأنا وإن كنت سجينة مقيدة، إلاّ أني حرة الدواخل وما زالت روحي ملكي.

كانت تشعر أن نهايتها دنت، ولم ترغب أن تجعلهم يشعرون بنشوة النصر وهم يتركونها تموت كالجرذان في جحورها. عندما طالعت السماء فاضت عيناها بالدموع، وقالت:

– يا إلهي، يا إلهي، مدت يديها نحو السماء، وبدت كأنّها تلوح بالوداع لكنها كانت تتحسس نجمة في الأفق، وقمراً في السماء ولكأن أحلامها صعدت إلى السماء لتنير الأرض، أحلامها التي حملتها وهناً على وهن. وما أن حانت لحظة الميلاد وكان للحُلم صَوت الجنين عند ولادته، صوت يطرب الآذان، لكن ذلك الصوت لم يطرب أحداً سواها.                                                                                                                        أهالوا عليه التراب حيّاً، وحملوها وأودعوها في زنزانة إرادتهم، إنّها اليوم ترى السماء، ولربما تضيق الأرض ولكن تتسع السماء لكل ما تنوء الأرض بحمله. أعوامٌ عديدة لاذت فيها بالصمت، إزاء عجزها عن التعبير، قالوا لها:

– اصمتي إنّ صوتك عورة..! رغم ذلك كانت ترى أن كل شيء بخير، وأرادت أن تخبر العالم بذلك، كان لها قلب رؤوم أرادت أن تمنح العالم نبضةً من نبضاته، تَسعد بسعادة الآخرين حد التضحية بنفسها، كانت لهم، وكانت لتكون لهم، لكن أحداً من العالم لم يكن لها. وضعت يدها على قلبها تتحسّس نبضها الواهن، أرادت يوماً أن تجد يداً تُوضَع على قلبها تتحسّس ما بداخله، أرادت رُوحاً واحدة ترى ما تحمل روحها، وحتى هذه اللحظة لم تخلق تلك الروح. أرادت أن تكتب إزاء عجزها عن الحديث، فقيل لها:

– إن يداً كيدك ما خلقت لتنال شرف التعبير.

ألقت نظرة على الصحيفة القديمة التي كانت تحملها، وأنشدت أبياتاً كتبت على صدرها.

(يقولون إنّ الكتابة إثمٌ عظيمٌ..

فلا تكتبي

وإن الصلاة أمام الحروف حرامٌ..

فلا تقربي

وإنّ مداد القصائد سمٌ، فإيّاك أن تشربي

وها أنذا قد شربت كثيراً فلم أتسمّم بحبر الداوة على مَكتبي.

وها أنذا قد كَتبت كثيراً وأضرمت في كل نجم حريقاً كبيراً.

فما غضب الله مني، ولا استاء مني النبي صلى الله عليه وسلم.

طوت الصحيفة على صدرها، واستلقت على الأرض.

أيتها العجوز، هيه أنت، كان صوت الرجل الذي كان يشرف على حبسها، وعندما لم تردّ وكزها بعصاه فلم تتحرك، اقترب منها وقال:

– لا تحاولي خداعي، لا تظني أنك ستستجدين عطفي وأسمح لك بالبقاء أكثر. ولما لم تتحرك المرأة العجوز، اقترب منها أكثر وجدها لا تتحرك، ضربها، فلم يسمع لها أنينًا، قطَّب حاجبيه ووضع يده على صدرها مُتحسساً نبضها، وجدها قد ماتت. ألقى عصاه على الأرض بقوة وقال متضجراً:

– اللعنة لقد ماتت.

ماتت حُرَّة كما تمنَّت خارج أسوار المكان الذي حُبست في داخله واتُّخِذ سجناً لها، كانت جامعة كلتا يديها كأنها كانت تدعو.

لم يكن هناك ثمة حريق ودخان سوى احتراق قلبها وروحها. ولم تكن يوماً أسيرة غرفة منزل عتيق.

هي كانت (امرأة بلا حرية).

* كاتبة من السودان

* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني

زر الذهاب إلى الأعلى