آخر السلاطين وشوق الدرويش.. مقاربة في سياق التاريخ والمتن السردي
تبدأ خيوط حكاية آخر السلاطين علي ود زكريا (دينار)، للروائي السوداني منصور الصويم (دار أوراق 2014)، في أم درمان بُعيد معركة كرري سبتمبر 1898، يسترجع فيها جفّال، الذكريات المريرة التي خلفتها المعركة الدموية ومناجياً سيده السلطان علي دينار ومتضرعًا إليه بعدما أفاق للتو بعد معركة برنجية الدموية على مقربة من الفاشر، لكنه تفتح وعيه مذ أن انتهت معركة كرري. جفال يقول: “كنتُ أزحفُ يائسًا على الأرض الرملية المدماة، وأحس بنزف الدماء ينز من يديّ وصدري وساقيّ، من كل شبر في جسدي كنت أحس بالنزف والألم والوجع. أفكر بسيدي علي دينار، هل يباركني الله بلقياه هذه المرة أيضا كما في الحروب السابقات؟ أتراني ألحق به مثلما كان بعد هجمة البروجات النهرية وقذف المدافع قبل الأخيرة واستشهاد الفرسان في سفح جبل كرري وخراب أم درمان؟”.
هذا المشهد الاستدعائي/ الاستهلالي في الرواية، يزحف بك وئيدا إلى أجواء الرواية، ويفتح كوة السرد على مسار الرواية وحركتها، وبالتالي حركة السلطان علي دينار ذاته، وهو في طريقه لاسترداد ملك آبائه بفاشر السلطان. ويكشف السارد جفال (خادم السلطان) اللحظات قبل الأخيرة للهزيمة المروِّعة التي منيّ بها جيش الخلفية عبد الله ود تورشين عند سفحِ جبل كرري شمالي أم درمان. وناقلاً مشهد معركة برنجية الدامية التي تناثرت فيها أشلاء المقاتلين والأحصنة سوية، واسودّت رمالها بعدما تمازجت واختلطت بالدماء، وهي المعركة التي سبقت سقوط عاصمة السلطان علي دينار الفاشر وفراره إلى جبانات ومراقد سلاطين الفور العظماء عند جبل مرة. وقد رسم تداعي جفال الباكي، الإيمان الشديد الذي كان يُقابِل به “رعية” السلطان علي دينار سيدهم، وقد كشف الجذر العميق بأن المعركة هي بين حامي الدين والكفرة الملاعين، والتوق العظيم للدفاع عن الحياة السلطانية بدينها وجبروتها، بشدتها ولينها، رعبها وأملها، انحصارها، وانغلاقها في طغيان علي ود زكريا على من سواه.
يُقابل ذلك، العبد بخيت منديل، في (شوق الدرويش) للروائي السوداني حمور زيادة (دار العين 2014)، معطيًا وصفًا مقتضباً ومروِّعاً بدوره لأم درمان ما بعد معركة كرري ذاتها، ومتحسرًا على اندكاك دولة مهدي الله عبر نفس الغزاة، بيد أنه يتوسل حبه المستحيل في الآن نفسه. يقول: “لستُ خائفًا من الموت. أنا خائفٌ ألا أراكِ مرة أخرى”. التالي حديث السارد: “النار والدخان في كل مكان. النار والدخان في قلبه. سقطت مدينة مهدي الله. بقعة الإيمان دكتها قنابل الكفار. إنها الساعة”. تستبقي شوق الدرويش، نفسها، في مدينة أم درمان، وبالطبع الخرطوم، ما عدا تقطيعات سردية تذهب بالأحداث للأبيض أوانَ حِصارها على يد جيش المهدي، المتمة، ثم مصر وبحر الإسكندرية، وسواكن، إذ كان مفتاح الرواية، حين قدمت ثيودورا للسودان، وهي العصب الرئيسي في المتن السردي، فهي من منحت الحياة لشخصية العبد بخيت منديل، أو هي من استدعته للحبكة، وعبرها غزل السارد حكاية حياة الأوروبيين الذين كانوا يعيشون في السودان ما قبل وما بعد الثورة المهدية 1885 – 1898م ، فهي من أدارت وعبّرت عن وجهة نظر الرواية ككل، المتمثلة في متقابلات كثيرة منها: البرابرة والمتحضرون، الحرية والعبودية، الدين والدنيا/ الهوس الديني والقيم الدينية اليوتوبية في الجانب الآخر، نخص دين ثيودورا على المستوى الشخصي، وعموم ذلك بنسب متفاوتة لبقية الأوربيين المقيمين في السودان وقتذاك. فساد كبار المهدويين سواء أكانوا تجاراً، أو غير ذلك، تعطشهم المريع للنساء الغلف، وامتلاكهن، شخصية الشيخ إبراهيم ود الشواك، أي، العنف البظري الهمجي في المقام الأول. أعطت (شوق الدرويش) من خلال شخصية الحسن الجريفاوي تلميحًا واضحًا، لتهيؤ السودانيين واستعدادهم لدنو المخلِّص أو الخلاص، بلغة ثيودورا، ورفعت (مهدي الله) إلى مرتبة المخلِّص، وأبعدته من شبهة فعال خلفه وأتباعه، وهذا ورد على لسان الحسن الجريفاوي، فيما متحت من قصة مريسيلة هول مجاعة “سنة ستة” الطاحنة التي ضربت السودان.
بينما خرجت (آخر السلاطين)، من أم درمان المقتولة بالمكسيم نحو التخوم الغربية للبلاد، تحديدًا إلى مدينة الفاشر في دارفور، إلى أن وصلت مراقد سلاطين الفور عند سفوح جبل مرة، حاملة معها عقدة السرد، إذ الدخول في عمق مملكة السلطان علي دينار، وسبر غور شخصيته المثيرة للجدل والتأمل، وتكوُّن السودان البديل للمهدية، في حياةٍ مكتملة الأركان ، ودولة منتظمة الدولاب، لكن السارد يغزل نسيج الحبكة عبر وجهاء: رجال دين، قواد عسكريون، تجار، ميارم، فضلاً عن كاتب السلطان، وخادمه جفال وآخرين. ودفع السارد في وجهة نظره السردية والمنطقية، بأمشاج، متنوعة ومتعددة من الحوار، فكانت الحكاية تستعد من تلقاء نفسها لخوض الحرب الأخيرة “شخصية الفتى القرعاني حسين”، وشخصية الكشاف، وشخصية الميرم تاجا شقيقة السلطان علي دينار ومستشارته. فيما كانت (شوق الدرويش) تحكي قصة حصار الخرطوم وتصوير الحياة آنذاك، وما بين الحربين، حرب المهدويين للأتراك، وحرب الإنجليز للمهدويين، ونتفًا من القصص ما قبل وبعد ذلك.
تقف الروايتان في باب التاريخي، وتستمدان مشروعيتهما السردية من حقبة واحدة في أحيان، حين البدء، وتتفارقان في الحيز الزمني، رغم التقطيع السردي الزمني، الذي قد يجعلهما متقابلتين. إذ تبدوان تاريخيتين إطارياً، فهذا حصار لا بد منه، لكنهما تفكران بالسرد وتنبشان التاريخ، محيلتي إياه إلى قراءة جديدة، فالكشف عبر التفكير السردي، محا التاريخ المهدوي المتداول من وجهة نظر كثيرين، وهذا بخصوص، رواية (شوق الدرويش)، بينما نحا التفكير السردي في (آخر السلاطين)، إلى ردِ الاعتبار إلى مملكة دارفور التي تنتاشها الحروب حاليًا وتمزقها كإقليم، فيما كانت هي دولة متماسكة الأوصال، منفتحة على الآخر، متمازجة النسيج، قوية اللحمة متحضرة للحد البعيد (رسالة ماكمايكل إلى ونجت باشا- 29/5/1929) في هذا الصدد. وقد اعتمدت الروايتان في توازنهما الفني، على الخطابات الرسمية والخاصة، ففي (آخر السلاطين) كان لمكاتبات السلطان علي دينار، دورها الرئيس في البناء الروائي والحفاظ على متانته وتعدد الأصوات الساردة، والتقنية الاسترجاعية للحدث، إملاء كاتب السلطان لابنته في التوثيق لحياة السلطان علي دينار، ومزجه مع الأحداث، مكونا خيطًا سرديًا استرجاعيا، متماهيًا مع أحداث النص الحاضرة بداخل النص. فإن الأمر ذاته ينطبق على (شوق الدرويش)، وإن اختلف النحو الذي استخدمت فيه ثيودورا خطاباتها الخاصة، التي كانت تحكي فيها انطباعاتها، بما يشبه اليوميات عن الخرطوم ببرابرتها السود، أي السودانيين. وهي بذلك قد حفظت توازنها الفني وأسهمت في شد البناء الروائي. وقد تشابهت الروايتان أيضاً في تقنيات السرد الاسترجاعية للحدث، ومضتا في نسج قصتي حب مستحيلتين، وإن كانت قصة حب العبد بخيت منديل واليوناية ثيودورا قصة عبثية للحد البعيد، وهو ما علق عليه الكاتب حمور زيادة في مناقشة روايته بالقاهرة، عندما قال في معرض حديثه “إنه لا يعرف كيف يقع الحب”. فيما دق عشق أحد قادة جيش علي دينار الشبان، سيف الدين البرتاوي، لإحدى الميارم، باب المستحيل وأوصدته المكانة الاجتماعية لمعشوقته بنت المطر، وهو ما قابله صد الحضارة التي باللون الأبيض للون الأسود الهمجي في الحب الأول كما تخبرنا تأملات ثيودورا في العرق الأسود.
تتفارق الروايتان، لا تلتقيان، حينما يدور الحدث، فـ(آخر السلاطين)، تستمد حدثها المباشر من المجلس الحربي الذي ينعقد في قصر السلطان علي ود زكريا، للنظر في شؤون الحرب الدانية، بينما يدور الحدث في (شوق الدرويش)، من وراء أفق وقوع الفعل بعد سقوط الخرطوم وبعد سقوط أم درمان بشكل أساسي.
اللغة هي سحر مزدوج في الروايتين، فهي كانت لغة شاعرة في أجزاء كبيرة من النصين، للتصوف الشاعري العميق حضور كبير في (شوق الدرويش)، فيما كانت الغنائية مستوى شعريًا في (آخر السلاطين). الروايتان قدمتا وصفا دقيقا لمعالم المكان، إذ برعتا في ذلك، وهو ما قوى منطق الروايتين فنياً، واستطاعتا أن تعكسا لنا حيوات قد يسود اعتقاد أنها فنيت، فقد عرفتنا (شوق الدرويش) على الأحياء والبيوت الأوروبية في الخرطوم، وبيوت كبار المهدويين، فيها، ثم ذهبت بنا إلى القاع السفلي في مدينة أم درمان، فضلاً عن الحياة داخل سجن الساير. واستطاعت (آخر السلاطين)، أن تصف لنا الحياة من سهول كردفان إلى دارفور، حيث عرّفنا النص على شكل الحياة في قصر السلطان علي دينار وحياة الأميرات الميارم في حي الخير خنقا، بدورهن السياسي، ونبل معيشتهن ورغدها، كما طوف بنا النص في الاحتفائية والغنائية التي لم تنقطع عن مدينة الفاشر حتى والحرب على بعد قليل، وطبيعة الحياة وتكوين المجتمع الفاشري أوانها بعمومه وبفئاته المختلفة.
خلاصة رواية (شوق الدرويش) في تقديري، أنها قالت بدروشة الثورة المهدية، على الأقل إنها تقول بفظاعة مسلك المهدويين في السلطة. وقد يقابل ذلك مسوغ غزو السودان لتحضيره من جهة الغزاة الإنجليز.
تضع (شوق الدرويش) أمام المهتمين عالما مهدويا كاملا في سياق قراءة تاريخية مختلفة، فهي بذلك تفتح أفقا واسعا للقراءة مجددا، و العمل يأخذ صبغة الجراحة التاريخية التي تستحق التأمل.
خلاصة (رواية آخر السلاطين) هي إعادة تسليط الضوء على أحد أهم سلاطين الفور وآخرهم علي دينار، واستنطاق شخصيته التي رسخت في أذهان كثيرين، كونه حارب الإنجليز ووقف إلى جانب تركيا في الحرب العالمية الأولى، إلى جانب كسوته دوريا للكعبة. لكن العمل كشف الجانب الشخصي: الإنسانوي والسياسي والأخلاقي/ الديني للسلطان علي دينار استنادا على دقائق دقيقة وسمات أدق تميز بها الرجل. كما تأتي أهميتها من كونها استعادت تاريخا به كثير من التقطيع والفجوات.
(آخر السلاطين) و(شوق الدرويش)، نصان إشكاليان، هزّا تاريخاً راكداً، وقد فتحا بابا واسعا لإعادة قراءة سِفر التاريخ السوداني، حتى نتفهم الحاضر، وهما قد كشفتا سرديا أن الإسلام السياسي أو نظام الحكم المقرون بالدين، عمره أكثر من مائة عام في تاريخ السودان الحديث.
* روائي من السودان