هو ذا النهار1
يناديني صوتكَ باسمي حافياً كما رأتني به أمي وهي تحبل بي، شادة حبلها بليف اللين تارة، وتارة بذلك الذي للوريد، فاتلةً للقرب جذمورًا2 بدلًا من الجذر اللغوي للكلمات، نافية معنى الانتماء في اللغة، ناثرةً مكانه ربق التيه. فكان أن أسمتني على غير ما جرت به العادة، وحدي دون إخوتي، كما لو توفي بوعد قطعته لإله الأسماء. أقول كما رأتني، وأعني صوت الوحي، فاللغة في عرف سلالتها تكون في مقام السماع دون أن ينتقص ذلك من رسم الحرف النوبي شيئًا.
وفي تمنعي عن الإجابة نشدانًا لحرية زائفة عن بديهية ما يمسنا من المطلق، أتخذ ملاذًا عند دعاء هولدرلين3.1. ويعاودني الوهن البدني مع معاودتي لهولدرلين، فكيف لجسد أن يحتمل التوق إلى الحياة بينما يلازمه النحول، سوى أن هذا التناقض الظاهري يحوي في حقيقته انسجامًا حييًا. وأشهد كيف يناجي هولدرلين الرب بلغة الشعر ويأمل في مسعاه هذا بتجسيد الحلم الكانتي4 في رؤية الوجود كما يكون لا بما ندركه قصورًا. فحري بمن كان يؤمن بأن الأسماء تحمل جوهر الأشياء وتعبر عن حقيقتها، أن تعينه هذه المناجاة الشعرية لكشف تجليات الحقيقة والجمال في العالم. وبذا كان الشعر وسيلته للوصول إلى اللامتناهي. كان يرى النظم الشعري «الشاغل الأكثر براءة من بين المشاغل كافة»3.2 على حد تعبيره في رسالة بعثها لوالدته. وبانشغاله هذا يتحرر من محيطه بالوقت ذاته الذي يتواصل به مع القوى العليا. ولذا يمكن القول إن فلسفة هولدرلين المتمثلة في شعره تتناول قلقًا متواترًا بين التوق إلى الوحدة الكونية من جانب، ونشدان الحرية في الوقت نفسه من جانب آخر، للعودة إلى نوع من الانسجام – مع الذات عينها والذات الإلهية – فقدناه مع مجريات الحياة الآنية، سوى أن بالإمكان استعادته.
غير أن نشدان الحرية يتعارض مع التوق إلى الوحدة الكونية. فالسعي نحو الحرية كتأكيد الروح الاستقلالية والتعبير عن الهوية الخاصة بالفرد، يُفضي إلى العزلة والتشتت. ويرى هولدرلين أن جوهر الوجود الإنساني هو في الوصول إلى نوع من التوازن بينهما. هذا التوق إلى الوحدة الكونية المتناثر على قصائد هولدرلين يدعو للتواصل مع الأبعاد الأعمق للوجود، انتهاءً عند اللامتناهي.
من ناحية أخرى، يتناول الفيلسوف الفرنسي جورج باتاي5 الصراع ذاته بتصور مختلف لأبعاده. ففي حين يلجأ هولدرلين إلى الشعر، يرى باتاي أن اللغة تتبع تطور الهياكل المجتمعية ولا تمس التجربة الداخلية، وأن التواصل مع الآخر يكمن في الحياة الباطنية، التي تُبنى بدورها على ولادة الفن والإنسانية والمجتمع البشري، وهذه الحياة الباطنية هي ما يجسد القلق الوجودي المشترك، وما يفضي إلى العزلة بين البشر والطبيعة. وبينما يؤملنا هولدرلين بمعادلة التوازن، ينبه باتاي إلى كونها بالأحرى حالة من الشوق إلى الاستمرارية مع الآخر والإلهي. فكيف لشوق لا يفتر أن يصل إلى توازن مسالم؟ إلا أن هايدغر جمع بين التناولين، فالشعر بالنسبة له يتجاوز كونه لونًا أدبيًا في اللغة إلى كونه ركيزة كل عمل فني. وبهذا ينتفي أي تناقض بين رؤيتي هولدرلين وباتاي عن الوسيلة الأمثل للتواصل مع المطلق.
وبينما أقرأ في قصائد هولدرلين متقصية هذا الصراع في أبياته، وإذ بذاكرتي تعود إلى عصر يوم ما، في سوق «ود مدني»، حيث أول النزوح. كنت عادةً ما أمر بالسوق في طريقي إلى العمل، لكني دخلته لأول مرة بغرض الشراء يومها. حاولت الاختلاط بالناس كأني جئت بينهم، لكني ساعة التفاوض والشراء أدع الأمر بيد من رافقنني من بنات أهلي. وفي وسط الممرات الضيقة المتكدسة بالحاجيات، والمظللة بأقمشة بالية تستند على عصي رفيعة بالكاد تحمل ذاتها، وصلني إنشاد بصوت جهوري، والتفتّ بقلبي، فإذا برجل فارع الطول في حلة أفريقية يقف عاليًا وينشد بلغة غريبة عني تذكرني بغربتي، وتوجهني إلى ذاتي بعد محاولة انسجام مع الآخر لم تؤت نصيبها من الفلاح. وبرغم حث رفيقاتي لي على المضي قدمًا للحاق بحافلة الإياب، لكن شيئًا مني توقف قليلًا بجانبه، وتبين لي حينها حاجتي للانسلاخ من المحيط للعودة إلى الذات، وللعودة إلى جسدي الذي من فرط التحامه بالناس فقد إيقاع خطواته بين المحال. واستدركتُ حينها صحة ما قاله لي أحدهم معلقًا على أن محاولاتي في التفاعل مع أبناء وطني تبوء دومًا بالفشل، وأن تمويه الاختلاف عنهم لا معنى له؛ فالكل سيتصيد رايزوم غربتي من الوهلة الأولى للقاء.
لطالما سكنني هذا الصراع الهولدرليني من دون قدرة لي على البوح به لأحدهم، فجاءت قصائده مواسيةً لي في حنو رحيم. غير أني ومع تتابع النزوحات المكانية، وما يوازيها من نزوحات باطنية، تغيب عن قاموسي مفردة الهوية. أحاول حذو من يفقد أرضه ويتشبث بهويته بدافع فطري، ولكن أي حاجة لي بها وأنا أعايش لحظية الحياة بإدراك جلي منذ أبريل الشقي، كما يقول إليوت في سياق مماثل؟6
وإذ أعود إلى نقطة أبعد في الذاكرة، يصلكم شيء من ترتيل ترنيمة بلغة لم أتعرف عليها في كنيسة مجاورة لسوق بحري، لم يكن جسده حاضرًا بين الجمع حيث كنا في الفسحة الخارجية نتناول الشاي، بل غلب حضور ندائه على غيابه المحتوى داخل القاعة، وبدا أن ما من مقام لي هنا، ولا مقر، سوى أني أراه أفلح في الجمع بين طرفي هذا الصراع الهولدرليني؛ محا ذاته في لحظة واستحال نداءً يلتمس رب الوجود، تاركًا لي في «دعة الصمت التي ترافق نعمى معانقة المقدس»3.3 والقبض على سر الكينونة.
يعاودني صوتكَ فأولد من جديد. أنسال من فمك مبتهلةً إلى رب الوجود، غائبةً عن تمثلي في الشفاه، عائمةً في اللغة اليم. وها تعُبُّ اسمي شربةً إثر أخرى، تبتلّ اللغة، وأنا على حالي رفقتك، في خفوت وخلوة، سابحة في ترانيم حوريات كافكا، راسية عند صمت هولدرلين. ثم أنّى للنداء أن يكون، وهو معك مناجاة مع الذات، لا خطابًا بين اثنين. شوق هولدرليني صوفي للتآلف. تعُبُّ غافيًا عن النَّفَس، وأغرق مثلك في الدعاء. يَثقُل حمل اسمي عليك فيحملني عوضًا عنك، رفقًا بك، ويغوص بي. وحين تشتد عليك اللجج في ليلك الأرق، تنتشلني من (مـ)وج سلالة أمي مشتبكًا بـ(حـ)لها وترحالها، منتهيًا إلى حيث عقدتها عند تجويف نون (السين)7 وهي في سريان الحرف، فيكون للأسماء أصلها، جذرها وجذعها، ولاسمي النجوى.
هذا ما عليه حال المناجاة، وأما الحديث بيننا.. فلا يكون.
- Holderlin F. Poems, classic poetry series. poemhunter; 2012. P. 7
هو ذا النهار تشير إلى حدس الشعراء بما هو قادم ومعرفتهم لقدسية ازدواجية دوام الطبيعة بقدم وجودها الزمني من جانب وحداثية صيرورتها المستمرة من جانب آخر حيث تكشف الطبيعة عن وجودها اليقظ وتكون ذاتها. يعين الاتصال بالطبيعة في التأمل والوعي بالزمن ورؤية تجلي الإشارات الإلهية. النهار هنا يرمز إلى الوضوح والنور، وربما يشير إلى لحظة من الكشف أو الإدراك العميق.
“Now it is day! I waited to see it come,
And what I saw — my words bespeak holiness!
For Nature, who is older than time,
Standing above the gods of the Occident and Orient,
Has awakened to the sounds of arms.
All-creating Nature feels the enthusiasm anew,
From Aether down to the abyss,
As when she was born of holy Chaos,
According to the established law.”
2. مفهوم «الجذمور» (Rhizome) عند جيل دولوز وفيليكس غوتاري هو مفهوم فلسفي يعبر عن بنية غير هرمية وغير خطية للمعرفة والوجود. استخدما هذا المفهوم لوصف كيفية انتشار الأفكار والثقافات والأنظمة الاجتماعية بطريقة متشابكة ومعقدة، حيث يمكن لأي نقطة أن تتصل بأي نقطة أخرى دون تسلسل هرمي محدد.
3.1 هيدجر م. تلخيص وترجمة بسام حجار. إنشاد المنادى: قراءة في شعر هولدرلن وتراكل. الطبعة الأولى. بيروت: المركز الثقافي العربي؛ 1994. ص108.
4. فلسفة كانط «هولدرلين استلهم أفكاره من الفلسفة الكانتية، حيث كان مهتمًا بالقوة اللامتناهية التي تتجاوز الفهم البشري».
3.2 المصدر نفسه، ص55
- Pawlett W. Georges Bataille: The Sacred and Society (Key Sociologists). 1st ed. New York: Routledge; 2015.”The birth of art, the birth of humanity, the birth of human society are not moments in the evolution of structures or institutions – such as language, economic production or status hierarchy but are, for Bataille, moments of inner experience, of interior life. This inner life is immediately one of communication with others, a shared apprehension. Such apprehension is, for Bataille, inherently a matter of the sacred since it concerns a communal dread and awe of nature and mortality, and a painful and heightened sense of the isolation of human beings from nature and from each other, an isolation that cannot be overcome by communal activities. There is a perpetual longing for ‘continuity’: continuity with others, with the divine (that is, with animal gods), and with the ‘immanent immensity’ of the universe.”
- Eliot TS. The Waste Land. 1st ed. New York: Boni & Liveright; 1922.
“April is the cruellest month,
breeding Lilacs out of the dead land,
mixing Memory and desire,
stirring Dull roots with spring rain.”
3.3 المصدر نفسه، ص81
7.إشارة إلى قبيلة المحس.