انتبهي يا حاسة الكون
* مشهد (1): التجربة بما هو حيّ فيها
كان المنشار المهتاج وسط صرخات الآدميين المظلمة، هو أول مشهد يواجهني على خلفية صوصل، إذ دخلت عليه في بهو المسرح القومي وأمامه (لابتوب) كان يشاهد عليه هذا (الإنسان المنشار) وهو يخوض في لحم ضحاياه. لم أحيِّه، فقد كان منهمكاً مع فيلم (مذبحة تكساس). جلست فقط ومددت حواسي مع الفيلم، وبكثير من الحذر المشوب بعدم الانتهاك؛ كنت أنظر إليه، فقط، ما أمكن، بأطراف عينيّ أرصد انفعالاته، لكنه باغتني: “شايف الزول دا عاش حياتو كلها في المسلخ بعدين المسلخ قفلوه”.
قلت له: “أميرة كلمتك عني، أنا أحمد النشادر، المفترض أعمل معاك حوار”.
قال: “أيوا أنا قلت ليها خليهو يجي يقعد معاي ويعيش معاي ويراقب التجربة الاسمها صوصل بما هو حيّ فيها”.
* مشهد (2): تبدأ الكتابة عندما تتحلل الجثث
هذه العبارة مبتورة من سياق قصص حكاها صوصل، وكأنه بتركيزه عليّ إنما يتجاوزني ويحاور شيئاً ثابتاًَ، شيئاً كبيراً جداً وعريقاً كشجرة، كشيء يحاوره صوصل حواراً بلا نهاية. تدخلت – أنا الشفاف – فقط لتعبر هذه الحوارية، التي بأكثر من لغة، بين صوصل وعالمه. تدخلت لترشح عبري هذه الحوارية.
قال: “الكتابة للمسرح أن تعطي فرصة لستة من المحكوم عليهم بالإعدام للظهور والإعلان عن وجودهم، رغم أنهم الآن في حكم غير الموجودين بصورة فظة وخشنة تماماً، أعني الكتابة عن أسئلة حقيقية”. أضاف بعد أن انتقل بجسده كله وقفز داخل الجملة بإيماءاته وحركات يديه ورجليه والسطور المنبعثة من حوار أعضائه الواحدة المتعددة: “شحن أحد الحكام كمية من الضباط المعارضين داخل عربات قطار مصمتة ومختومة بالشمع الأحمر، مصمتة تماماً بحيث لا هواء يمكن أن يغادر أو يدخل، ومطلية من الداخل بالإسفلت الذائب. حُشروا في هذه الجهنم السوداء، وأمر سائق القطار بأن ينطلق بلا هوادة في الصحراء. الحصل بعد ساعات كان موت ثلثي الضباط، وتسلخاً مريعاً مضطرداً، تنفسهم نفسه كان يسلخهم في شكل اختناق، إضافة إلى الذوبان الحار للنار السوداء. ما حدث أن السائق كان يريد استبدال شيء؛ فوقف في محطة، ليلاحظ السكان أن هناك ما يشبه حركة الدواب في هذه القاطرات المصمتة، مع أنه يفترض – حسب ما أشيع – أن يكون بداخلها سلاح. الشيء الوحيد الذي كان يستطيع النفاذ هو دربكة الأرجل، وكان نتاج هذا الانتباه أنه تم إنقاذ بقية الضباط. تبدأ الكتابة عندما تتحلل الجثث، عندما يغوص هذا المجموع في عفونات التنفس والبراز والهواء الذي يقتل الرئات، الكلمة التي أريدها من كل هذا (الانتباه)”. هذا ما قاله صوصل: “الانتباه الكوني”. وردد صوصل الكلمة عدة مرات.
واصل: “تعرف مجدي النور مات كيف؟ بعد حادث السيارة كان مكفياً على (الدركسون) وينزف لمدة (5) ساعات، ولم يتم الانتباه إليه لأنه كان في مكان مظلم قليلاً، رغم أنه غير معتاد تماماً. كان فقداً لصنو كامل، وأنا لمَّن أتكلم عن صوصل بتكلَّم عن جيل، عن تداعٍ في الآخر، عن تجربة آخر. الانتباه مفقود، الفنان حاسة للكون، يمثل الانتباه المفقود، والانتباه يعني أن تُنقِذ”.
واصل: “الإنسان الأول وهو في عراء وجوده كان منتبهاً وبعيداً عن الضجر، منتبهاً لكي يأكل، وحتى لا يؤكل، لكي يشرب، كان محتاجاً إلى الانتباه جداً، لكي يبقى حياً، ما حدث أنه تم اختراع آلات وتراكم حضارات ما أدّى إلى طمس الانتباه، في المقابل إلى تراكم الضجر، لهذا وجدت هذه الخطورة الناجمة عن اللا انتباه. على الفنان أن يكون بدائياً بامتياز، مخترقاً هذه البلادة، ليصبح حاسة الكون؛ مهمته أن يُنقِذ”.
بدا لي صوصل الغائص في تجربته المسرحية، في الواقع، بالواقع، وفي الشخوص؛ متمرغاً في انحطاطها وبؤسها وغيبوبتها، وخارجاً من كل ذلك بصفاء حواسه نحو هذه الخطورة. بدا صوصل خشبة بشرية يؤدي المسرح نفسه فيها كروح لصوصل.
* مشهد (3)
دار في كياني المشهد الثاني وكأنني كلمات صوصل وهي تمر عبري في مونلوج ذهني قارس: “إنسان الانتباه قضى على الانتباه فحدث الضجر، هذا الإنسان الأول المنتبه كيف يأكل؟ كيف لا يؤكل؟ المسرح مقدس بخروجه من القداسة، مقدس قداسة خروجه من القداسة؛ لأنه استرجاع لحاسة القداسة، لحاسة التهويل، لحاسة الانتباه”.
ثم بدأ المشهد الثالث: الأثر الفسيولجي الأعمى
حكيت لصوصل عن الأثر الذي خلّفه في عرض (الأخيلة المتهالكة). كنت منقاداً لمحض حساسيتي الشخصية، إلى أميرة الشيخ؛ الممثلة، التي كانت في حالة من النشوة لمجرد معرفتها بأن عرض (الأخيلة المتهالكة) سيقدم على خشبة مسرح البقعة، عليه فقد اعتمدتُ أميرة كحاسة لي في تلك الأمسية وذهبت. ما حدث هو الفزع، أحسست بخوف جذاب وساحق لاتساعه، لقد خفت من الإمكان البشري؛ الإمكان الذى يقدمه المسرح للبشر، لقد أحسست بما يمكن أن أسميه (أثراً فسيولوجياً) سيطر عليّ.
كأنما تغلغل هؤلاء الممثلون الحالات في لحم كياني، ولم أستطع أن أبعد نفسي عن سيطرتهم، فرحت أرتجف داخلياً، وخارجياً وجدت نفسي متشبثاً بأقرب شيء إليّ، وهو الهواء، وكم كان بعيداً حينها.
انتفض صوصل قائلاً: “هذا هو المطلوب بالضبط، يجب ألّا يستمتع أحدٌ بالعرض إلا منتجوه، أما للجمهور، فليكن الأثر فسيولوجياً أعمى، لا هو متعة ولا هو أي شيء آخر”.
* مشهد (4): لسان الداخل مقطوعٌ
تتخلص الأسئلة من نفسها بسرعة، ممزقة إياها، لتكون وجهاً واحداً مستسلماً للذة كشوفاته في سرده الممسرح. نحن الآن في بروفة (الأخيلة المتهالكة)، وكأنني مطالب بإجراء كلامي يقابل ما يجري على اللاخشبة.
يتنقل صوصل بين الجمل بكيانه كله، وبسرعة شديدة بين مجازات متتابعة، يصلها خيط عصبي، رهيف، على خشبة حسه المسرحية حتى الجذور. ونحن ملتفون على جثة العرض الحية بقوة بيننا، متحدثاً عن (الأخيلة المتهالكة) يقول: “لم تكن لدي فكرة عن عقلنة رؤى الحياة. التشكيليون يهاجمون مهمتهم في جمالها المسبق، إنها مهمة مشبوهة لأنها تتعامل أصلاً بعناصر جميلة ممثلة في اللون، اللون أصلاً جميل خارج اللوحة وداخلها، حتى الدم إذا نظرنا إليه من هذه الناحية، البحر الأحمر أزرق، ولكن داخله المرجاني هو الأحمر، وهذه التسمية (منطق شوف)، فنحن نقسو على الأشياء ونعقرها، لنخرج السائل أو اللون. إخراج السائل يعني القوة التي تنعت الأشياء بقسوتها، وتعطيها ألوان الجمال، هذا ما يسمى قبح الجمال. في الحب، مثلاً، حب الأم والابن براغماتي، الأم تحب فتنة جميلة عبر وسيط هو المصلحة المشتركة، مصلحة النهد أو اللبن، وعندما ينزع من الطفل هذا اللبن يبكي، وهذا عدم مقدرة على الامتلاك الكامل بالنسبة للطفل، والامتلاك أدواته تتطور ليصبح امتلاكاً أكثر، أقصى درجة من الامتلاك هي أكل الشيء، وهذا ما يحدث بعد أن تنبت أسنان الرضيع، فهو يحاول أن يعض. ما أريده هو أسئلة حقيقية في تناول البشر”.
واصل: “كفرت بالمجموعة كخيار، تحركت باتجاه منفعة فردية”. ثم ينتقل صوصل بعد أن ضرب مثلاً ولم ينس أن يخلق جدواه؛ إلى المشهد الذي يمثل باطنه، يتحدث في انتقالات سريعة عن جدوى المجموعة، ثم يرمي في شبكة انتظارنا الجاهلة كلمة (الحرب).
يقول: “الحرب (حربنا) تشبه الحربين العالميتين؛ الأولى والثانية، مع تأجيل موتنا الجماعي إلى موت داخل البيوت. نموت داخل البيوت ولا نموت، نموت موتاً ميتاً، اليوم لدينا تنفس تحت القهر في شكل أجيال جديدة تتعاطى هذا المسرح (بعيداً عن الأداء)”.
واصل صوصل: “قبل (3 سنة) اختار ربيع صوصل وإبراهيم سلوم، والاختيار يريح المختار من فكرة (الأنا)، وهذه المحاولات داخل تيه الشفاهة السوداني، لقاءات داخل التيه بيني وعاطف خيري وإبراهيم سلوم، ثم (19) سنة شَكِّيَّة حتى تسرب الشك حميماً في العلاقات الحميمية جداً”.
وكأن هذه المواعين والسيالات الحارة والمتشابكة، الشخصية، الثقافية، السياسية، الموْتِيَّة؛ تصب في ما سيوجهها صوصل إليه إذ انتقل مباشرةً دافقاً كل هذا تجاه عرض (الأخيلة المتهالكة).
يقول: “أنا أقدم مصائر لكائنات حية عصية على الالتقاط، لذا لا مكان منطقياً لشخوصي”.
التفت صوصل بحيث لا يمكن أن أرى التفاتته، كأنه يخرج منها سؤاله لي: “العبارة اللفتت نظرك شنو في العرض؟”.
قلت: “العبارة التي قالها الممثل إيهاب بلاش: (الآلام في الأحلام أفظع)”.
تدفق صمته وهو يغير الهواء كما بمكنسة، تحدث عن المدارس الكثيرة في تفسير الأحلام، ثم قال: “قدّمت كوابيس، مثل كابوس السقوط، وهو من الكوابيس المتجذرة في لا وعينا الجمعي. قدمتها بالوعي المسرحي للوعي؛ لأن مهمته أن ينقذنا”.
كان كلامه يفرغ ويمتلئ بمحتليه من الأفكار، لأنه انتقل من كابوس إلى كابوس، متقافزاً بين فهمه لها حتى حط على ما يسميه حلم الحبيبة، وقبل أن ألتقطه، تدخل المخرج ربيع يوسف قائلاً: “بدون ما أبتذل الجملة، بشكل تقريري للكلام، أنا قدمت شخصيات بخبرة عسكرية حتى في أحلامها”. التقط صوصل الجملة قبل أن ترتفع من فم ربيع قائلاً: “لو بحثنا في المسرحيات المقدمة قبل انقلاب الإنقاذ، ياتو مسرحية أرهصت لحلم الإنقاذ؟ تلقى مسرحية (انقلاب للبيع) بالتزامن والترابط مع التخدير، تخدير المدنيين الذين بدأوا يلعنون الديمقراطية، والإشارات التي وردت في المسرحية، المسرحية قدمت ضابطاً في دور عاشق، ضابط عاطفي، كانت المسرحية الوحيدة القدمت الدور دا في المسرح السوداني، حبيبتو بتحبو وبتكرس ليهو، في الخيال الشعبي أصلاً البنات بغنوا للضباط، لكن كان في حذر على المستوى المدني من سيطرة العسكر وحذر من التعبير عن ذلك مدينياً، ودا الحصل في المسرحية، المسرحية بينت إنو المدينة اكتملت خيوط تعبئتها للانقلاب، الإشارات المرهصة للانقلاب مسيطرة على الوعي المديني وتجلت في المدينة وفقد الحذر”.
أحسست كأننا في مكان في أقصى الشعور، مكان داخلي جداً نقلتنا إليه الللوحة التي لا تنتهي؛ (الأخيلة المتهالكة)، بينما أبقى كل منا على طريقه إلى نفسه عن طريق خيط رقيق يمثل القلب.
التقطت علا السر خيطها، وسردت أحداث المسرحية كلها تقريباً، رغم أنها المرة الأولى التي تشاهدها فيها، وتحدثت شحناتها التي اختار جسدها أن ينفصل عنها ويكونها.
علّق صوصل على سرد علا لانفعالها قائلاً: “ذكرتيني (سلسل) من ألعاب الطفولة، (سلسل) مصفوفة فيه كائنات بحرية، في (الأخيلة المتهالكة) عندنا (سلسل) مرصوصة فيه كائنات موت: موت الدب، موت الأب، موت الممثل، موت المؤلف، موت الكاتب… إلخ. موت جمّلناه بوحشةٍ ما، لذلك كان اللعب شديداً بين الخيالين المتهالكين (حمد النيل، إيهاب)، الموت لا يظهر في الحياة، إنما يظهر كفقاعة سرعان ما تنطفئ قبل أن يلتقطها أكثر من مجسّ، ذكاء الموت في أن لا ينبهنا إلى نفسه، لو انتبهنا قد نهزمه، شوفي مقابرنا موحشة، زعلانين منها وما متصالحين معاها، لكن المقابر تعود من الموت إلى الحياة في شكل أكثر وحشية ووحشة في شكل (البعاتي) مثلاً، تجليات الموت في حقيقته ولا حقيقته”.
في هذه اللحظة كنت أتأمل بلا ذهن تقريباً آليات الجذب في هذه القصيدة اللوحة الشعورية، مثل الناس داخل الإحساس بقصيدةٍ ما، آلية تشد خيطاً من قلب كل متلق، إلى التماس مع العدم الذي له سلم ونافذة مفتوحتان على خيال متهالك يعمل كخيال خلفي أكثر خيالية وتهالكاً من الخيالين الآخرين، الخيال الخلفي؛ خيال الأنثى.
وكأنما وجد ربيع جملته؛ قال: “قدمت شخصيات بالأساس ذات خلفية وخبرة عسكرية، وأكثر وسيلة وصلت إليها شخصياتي في مجابهة الضجر هي العنف، العنف المعنوي في التلذذ بحكاية الآخر المريعة، حيث يسرد خيال متهالك حكاية الأب ويسرد خيال آخر حكاية الدب ويتلذذ كل منهما بحكاية الآخر”.
كان اختلاف المخرج والمؤلف يرن في أسئلتي الشرهة، أفرحني ما فعله النص-العرض من نتيجة مباشرة تمثلت في مجابهة ثرية شغلت المخرج والمؤلف وشغلتني كمحور لاستتبابها.
قال الممثل حمد النيل: “أريد أن أحكي عن تطور علاقتي بالعرض واختلافي معكم، لم أحس بأنني أستدعي حالات ذهنية أو كلاماً محفوظاً، أحسست بأنني أحقق أحداثاً باستمرار، أتعرّف إليها باستمرار، لم أحس أنني شخوص مكتملة متناثرة، نحن أجزاء، لم أحس بآخرية إيهاب وبقية الديكور، ورغم أن العرض اسمه (الأخيلة المتهالكة) لكنه لم يحدث للحظة أن أحسست بأنني أتعامل مع جملة؛ بأنها واقع غير متحقق، وأنها لا واقع في صيرورة مستمرة ابتداءً من الاختباء- التوجس- الاختباء، هذه وقائع ليست استدعاءات ذهنية، لحظة (الدب) تحدث الآن وأنا أحكيها بضمير الغائب”.
* حالة
صمت إيهاب الحُر، صمت ما بعد البروفة المشدود إلى البروفة بخيط من الزمن الحارّ، زمن الحالة الذي هو حالة الزمن، أول كلمة خرجت من إيهاب كانت كلمة “حالات”، هذه الكلمة التي كأنها زكاة كيان إيهاب، كأنه لم يقلها، لكنها أفلتت وباغتته، كأن كيان هذه الكلمة كان يستحق أن يوجد بذاته ولذاته، هذه هي الكلمة التي قالها؛ حالات: “العرض- النص قائم على حالات، أنا بحاول أهبِّش أطرافها، النص دا عمل لي حاجات صعبة، دارت جوّاي أسئلة موت، دارت زي كأنها أنا، يوم بعد البروفة رجعت البيت بي إحساس الموت دا في لساني، وفي جسمي، إحساس موت ما عارفو كيف، حسيت حأموت، سكرات موت، قلبي نبضو سرّع، خُفتَ، عرقت، فضلت مواصل كدا لغاية الساعة اتنين ونص صباحاً، اتذكرت إنو الروح بتطلع من الرجلين، رجليني ماتو قلت أحركن لوما اتحركن معناها أنا مُتَّ، بعداك اتحركن، تاني يوم حكيت لي ربيع.
قال لي: بعد دا ما داير أعرض لأنو الدايرو من العرض دا حصل”.
أنقذها، أي اللحظة، حمد النيل: “لو واصلنا في الأحاسيس المريعة دي، أنا خُفتَ، بعد العرض انتهى، بعد الستارة نزلت، فضلنا أنا وإيهاب وأميرة في المسرح، إيهاب يرجف وشّو أحمر وعيونو حُمر، أميرة مكفية على سرعة العدم الطالعة في سلم، كنت حاسي بي إنو الجمهور الذي يتدفق عليه العرض هو الحماية الوحيدة لي من هذا العرض، عندما أسدل الستار، فقدت الدرع. مع هذا العرض حسيت بي وعي جديد مع النفس، استدعاء ذاكرات مختلفة من البروفات مروراً بالعرض، خبرة انفعالية جديدة، جديدة، ما حسيت أبداً أني متماهي مع تكنيك كممثل، أنا متماهي وموجود في تحقيق حالة بحب أعملها”.
* استلاف ملائكة جسد صوصل
ممازحاً عُلا قلت لها: “تلزمني استدانة الملائكة المدونة لأعمال صوصل على كتفيه لملاحقة لغة جسده، فعندما يقول (قوة الذهن) ينطلق الذهن كطلقة من حركات عفوية متقنة تجعل الذهن منطلقاً في القوة، خاطفاً هواء المتلقين الصغير”.
اليوم الثاني قبل البروفة، كان صوصل يتحدث عن الصاعقة الأولى للمسرحي حذر الموت، صاعقة لمسته الأولى للمسرح.
صوصل: “أول مسرحية مثلها شارلي شابلن كانت عملية تحنيط والده”. نظر إلى المسجلة التي اقتحمت علينا وتنصتت بلا هوادة على كل ما يمكن، مغويةً إيّاهُ، تتلقى بلا حواس ولا حساسية كل حواسنا وعصائرها.
قال: “كان في بالي إنو ألطف نكون برة رقابة المسجلة، كان أفضل ما تورينا الآلة دي”. قالها بحذر لطّفهُ أنه ليس بحذر. بينما الغداء يقتحم أصواتنا المتشابكة في الجوع.
قلت: “قمت بما سميته التقاطاً ذهنياً في مشاهد للقائي الأول معك، المشكلة كانت في لغة الجسد التي ترقي عندك إلى مستوى يضع كلماتي كلها في خانة بلهاء بضفيرتين من (ريالة) عدم الجسد، قمت بتعويض ذلك – كما أعتقد – بالإيقاع في الكتابة، إيقاع كما أفترض أنه هيكل موسيقي معصور كيف يشاء المخرج، هذا ما كان عصياً فيك وهذا ما كان مني”.
قال: “كويس، أول مرة أنتبه إلى إنو الجسد عندو علاقة بالأفكار، الجسد عندو علاقة بي قرايتك لي نمط الذهن بتاعك، إنّو مرة كنا قاعدين نتأمل مع أهلنا البقارة، نتأمل في أنماط الحيوانات الهُم شافوها، وعندنا عماً لينا سعيد شديد جداً بي إنو يتكلم ليك عن الأشياء وهو بيفتكر إنو الأسد ما أكبر من وحيد القرن ولا القرنتية، والأسد ما أوحش من وحيد القرن ولا القرنتية، لكن الأسد إنتا إذا حسيت بيهو ماشي؛ مشيتو مهيبة أكتر من المشية بتاعت القرنتية ووحيد القرن”.
هذه اللغة، عندما تكتب وأنت شاعر في البداية لتستحق هذه الكلمة نفسها تبذل فيها صفحة كاملة، ثم ترهف لغتك إلى أن تستطيع أن تكتب بكلمة واحدة، أما صوصل فهو يشحذ هذه الشحنة كلها في جسده وحركاته، فكأنما جسده هو السطر المستحق للكلمة المستحقة.
واصل: “الحاجة التانية بتكلمو عن زول اسمو أبوقرين، دا صياد بتاع فيل، بسألوه هو بيطعن الفيل كيف؟! الفيل في البداية، الفيل مسالم ما شرس عشان كدا بسكّوا أربعة عندهم اتنين في المقدمة ديل هوّاشين، ديل بجهجهوا ليهو الفيل كويس، بخلّوا ينتبه لي دا ما أدراك انتبه لي دا، بقوم مع الجهجهة عندو ملايِن بتتفتح، بطعنو في الملاين بي حراب طويلة بخشوا لحدّي القلب. من الحتة دي قدناها لي رقصة الصقرية، الصقر اللي هو الرخمة، ما الصقر المسكين حقنا دا، صقرية من الصقر أبو رخمة دا قبال ما يشيل الفريسة بتاعتو عندو حاجة بعملها، اللي هي الرقصة، رقصة الافتراس”.
(جرى الحوار مع سيد عبد الله صوصل وفريق عمل مسرحية “الأخيلة المتهالكة” عام 2006 بمناسبة عرض المسرحية بمهرجان البقعة، وفاز العرض بجائزة التمثيل الأولى).
* شاعر وصحافي سوداني
ahmedendimog@gmail.com