ثمار

الفن الذي يظهر ما يحاول الإنسان إخفاءه

هناك سرديّة كُبرى تحاول أن تخبرنا بها هذه الصورة، عبر عناصر تكوينها البسيطة من مُجرد اطلاعنا على عنوانها “alone”،

إنها سرديّة الوحدة الأبدية المُلازمة للوجود. السردية التي يبدو إنه لا يحدها زمان أو مكان؛ فكل لحظة للاجتماع، وفي جميع أشكاله، ما هي إلا مجرد وهم للحميمية والواقع في نفسه ما هو إلا “الوحدة” والعزلة. كل حضور للآخر في معيتنا، هو مجرد طارئ وتخيلي، والحقيقي الدائم هو الغياب. إن لقاء من نعتقد إننا على علاقة بالوصل معهم ما هو إلا مجرد حدث. إنهم مروا فقط عبرنا، إننا جميعاً، وبلا استثناء في حالة من العزلة والوحدة الأزلية الأبدية، برغم كل هذا الاجتماع المتبدي.

عبر هذه اللقطة، هذه الصورة، هذا المشهد -الذي يظهر ثلاثة أطفال “كما بدا لي” رفقة أربعة من الحمر- لا يقدم لنا بحر فقط لوحةً فنية بديعة الجمال -عبر استخدامه الاسلوب التشكيلي الذي يضع تركيزه على فكرة الموضوعة وألوانها كرمز للسرد، عوضاً عن الأسلوب التوثيقي/التسجيلي في التصوير-، بل إنه أيضاً يكشف لنا عن الشروط القاسية للوجود الإنساني، بل بصيغة أشمل وأدق عن الشروط الغالبة على وجودنا ككل موجودات هذا الكوكب.

كل تفصيله في الصورة تخبرنا بطريقة ما عن هذا الشعور الشديد والمتعزز بالوحدة. ليس ابتداءً بالوحدة في معية العزلة، التي يمثلها الحمار المنعزل أقصى يمين الصورة داخل هذا المشهد، مروراً بالألوان التي تعكسها الصورة، الأسود الداكن في المقدمة والذي بدوره يسيطر على موضوعات الصورة نفسها، والذي يعبر عن القتامة والبؤس في هذا السياق، بالإضافة لوجود اللون الأصفر المحمر الذي تكتسيه خلفية الصورة في محاكاة لمشهد شفق المغيب، أو إنه لون شفق المغيب نفسه، والذي هو تعبير كلاسيكي عن حالة الغياب “مغيب الشمس”، وليس انتهاءً بهذا السياج المصنوع من الأسلاك الشائكة، الفاصل بين مقدمة الصورة وخلفيتها، والممتد حتى نهايات طرفي الصورة والذي يضيف فكرة أخرى؛ وهي انعدام الحرية، معززاً بذلك حالة العزلة الصارخة التي تنضح بها كل مكونات الصورة. إننا قبل كل شيء لسنا أحرار، إننا بصورة ما وداخل هذا المشهد -داخل الوجود، وداخل عالم اليوم هذا قبل كل شيء-معزولون عن ذواتنا وعن كل ما يمثل الآخر. معزولون حتى عن الحقيقة؛ إن عبارة الأسيجة اليوم تقدح في عقولنا فكرة الأمان “تقرأ أسلاك شائكة في مواجهة اللصوص لتبعدهم عن ممتلكاتنا” والعدل “تقرأ أسلاك شائكة في مواجهة المجرمين لعقوبة اقترافهم جريمة ما”، وبالتأكيد هناك دائماً بوابة صغيرة كالتي تظهرها الصورة، يتحكم بها من وضعوا شروط هذه اللعبة. بيد أن هذا العالم الموسوم بالأمن والعدالة، هو أكثر ما يفتقر إليها بصورة صارخة. بهذا المعنى، إننا معزول حتى عن الأمن والعدل. إن هذه العزلة والوحدة هي بصورة ما كما لو أنها قدرنا الأبدي. ربما هذا يفسر جانباً من رغبتنا الدائمة والحثيثة لحالة سعينا إلي الحرية، والتي هي في إحدى توصيفاتها المسيرة المطلوب قطعها لتحقق ذواتنا وتعزيزها. المسيرة المطلوب قطعها لفض كل هذه العزلة ما بيننا وبين ذواتنا المتحققة. لكن بما أننا لا زالنا في الطريق، فنحن معزولون بالضرورة.

الاستقامة التي يظهرها السياج بامتداداته المطلقة التي لا نشهد نهايتها في الطرفين، تحكي حالة من الفصل ما بين عالمين، ما خلف السياج الذي لا نرى نهاياته هذا وما دونه. لكن المحصلة وللأسف واحدة. حتى الحرية، التي قد تتمثل هنا بوجود أحدنا خلف السياج “الرمزية التي يحاول أن يروج لها الواقع بسرديته الرسمية الزائفة، أننا طالما كنا في الجانب الآخر من السياج فنحن أحرار” قد تم فضحها، فهي في النهاية حرية في مواجهة غياب الحقيقة. حقيقة من هو فعلاً بالخارج ومن هو بالداخل طالما أننا لا نعلم نهاية لهذا السلك الشائك؟ “وهل من هم في الخارج حقاً أحرار، كما تزعم السردية الرسمية؟”، بالإضافة لمواجهة غياب آخر، هو غياب الأمل الذي تمثله حالة إقبال الظلام “مغيب الشمس”. ومن ثم سواد كامل على موضوعات الصورة نفسها “الحُمر والأطفال”، إنها فجيعة كلية وحالة كاملة من الحزن، في مواجهة بؤس الوجود وشروطه القاسية في غياب الحقيقة والأمل.

يبقى أن نذكر بشيء أخير، أن فكرة الاجتماع هذه. المجتمع مثلاً. لا تعدو عن كونها فكرة مجردة abstracted، فالواقع أننا في النهاية محض أفراد، في حالة من العزلة. إن عنوان هذه الصورة يحكي عن جزء يسير -ولكنه كاف – من شرط الوجود القاسي، الذي تعززه كل يوم شروط إنسانية أشد قسوة على الجميع. ليست الوحدة فقط ما يواجهه الإنسان في هذا الوجود، بل أيضاً عذابات الشروط الموضوعة والمؤسسة من قبله هو؛ تعزيز حالة عزل الناس عن بعضهم في ظل غياب العدالة وتغييب الأمل والحرية. لكن أليس الوجود كله في الصيغة الطبيعية/الأولية لشروطه ما قبل تدخل الإنسان “إن جاز التعبير” تمثل ما يكفي من البؤس، والتعبير عن حالة الوحشة والعزلة. الوجود الذي يمكننا إجمال وصف أهم شروطه الأولية بأنها “الصراع” لأجل البقاء. أحدهم صاغ هذا النعي لحالة الوحشة في الوجود بمرثية بكائية في شكل شديد التشاؤم عندما قال:

Two possibilities exist: either we are alone in the Universe or we are not. Both are equally terrifying.

لكن، أليست قدرة الإنسان على التدخل المادي في الوجود وإعادة صياغة الشروط التي نتواجد ضمنها جميعاً، والتي حصل وأن تدخل في صياغتها سلفاً لينتج هذا المشهد البائس. أليس امتلاك هذه القدرة يبعث ولو جزئياً على الأمل؟

الحب -وليس الانصهار أو الامتلاك كما يشيع اليوم- ربما يكون أفضل الأمثلة خارج هذا المشهد للبداية به، حيث يمكننا أن نرى أنفسنا في الآخر ومن خلال الآخر، حاله كحال كل ما هو تحرري Emancipatory في قدرته على خلق تأثير أنطولوجي، كالسياسة، الدين وبالتأكيد الفن؛ فثمة مقولة تحكي عن أن ما يخفيه الإنسان يظهره فنه، ربما هذا بالضبط ما يدعوني لوصف هذا المشهد بأنه الفن الذي يظهر ما يحاول الإنسان إخفاءه، كما فعل الآن هذا العمل الفني لبحر، بفتحه لنا بوابة ل”فهم جزء من الواقع” بفضح زيفه، والذي يمثل عنصراً أساسي لتحريك التاريخ.

 

 

 

* كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى