
أتوقف قبل أن أكتب شيئا عن الشعر لفيض البهجة والضوء اللذان يغمران بصيرتي، إنه عناق جائش أكثر من كونه شيئا يقال، نخون جماله حين نكتب عنه، نمنع تدفقه حين ندله على الطرق.. لكن ما عسانا أن نفعل، فليكن كلاما وكأنه فضاء مفتوح لحركة الجمال لا طريقا مدرسيا مسدودا، نعم ثم مفارقة في هذه العبارة كوننا نقول أن طريقنا المفتوح هو معبر الجمال فنمدرسه دون قصد، تماما كما يحجب اللفظ المعنى والكوكب الطاقة والجسيم الموجة، لكنه حجب لا بد منه لحدوث التجلي وانعكاس جمال الضوء في الخضرة الزاهية التي يهطل عليها.
لكن ما هو الجمال ابتدارا؟
الجمال هو “وقع الأثر” هو التجلي و الكشف هو فعل الإحالة لا الإحالة نفسها، الكلمات لا تقول شيئا إنها تصف وتدور مثل الكواكب حول الشمس، جمالها يتأتى بمقدار ما تعكسه من تألق الضوء، لا جمال للضوء في ذاته.. الجمال يحدث نتيجة انعكاسه وحلوله، تماما كالمصابيح الملونة، أو كواكب ملونة تدور حول المعنى مصيرة ذلك الضوء الواحد رؤى ومشاهد عدة يمليها عليها وضعها وظرفها المداري حول الشمس، الجمال هو هذه الفرادات والسير بين الإحالات والتلذذ بإمساك الخيط وهو يتفرع إلى خيوط تتفرع إلى خيوط أخرى رأين الخيوط الصغيرة منسلة من الخيط الكبير.
لكن ما هو المعنى؟
المعنى هو رمز الحقيقة، النصب التذكاري الذي نقيمه على شرفها، الشمس التي يحل فيها الضوء ويفيض منها، إنه العين الرائية التي نتملى عبرها الأشياء ونتملاها في عين تلك الأشياء، إنه تجربة العقل البشري مع نفسه ماشيا تجاه الأشياء محاولا فهم تحققها وفهم نفسه في تحققها، الرؤية هي المسافة، هي المصفاة التي تجتبي الماء وتتركه بعد أن يمسها بامتزاجه، ليس شيئا خارج التجربة بل هو في علاقة ميلاد مستمر مع التجربة، لا مسلمات إذ أن المسلمات تجعل من العقل أعمى أو مكررا لما رأى، تجعله بعيدا عن حيوية الحياة محتجبا عنها بتأليهه للحظة سابقة نصبها مقياسا لكل ما سيأتي بعدها، غير واعٍ بمسألة الصيرورة وفعلها المستديم في تبديل كل شيء.
الجمال إذا هو منذور هذا الهم! منذور الدلالة على هذا التألق والشعر هو عين كل جمال، الشعر الذي كلما ذهبنا إليه عدنا منه ناقصين وشاعرين أننا لم نستنفده بعد، فنعاوده لأخذه كمعاودة الموج للشط بينهما اللقاء الأبدي والوداع الأبدي.
إن جمال الجمال يكون في حيويته، وجمال الشعر يكون في حيوية كلماته أو آثاره، وتلك الآثار لن تستطيع الإضاءة بالجمال ما لم تقفز في تدفقه، ولن يكون ذلك القفز إلا لعقل حر حاضرا بوصفه شاهدا لا قائلاً، يذبل الشعر بسرعة إذا ما حاول سجن المعنى وتجميده، لأن المعنى بطبعه منفلت وحين يمسك في كلمة أو جرة فإنه سرعان ما يصير رمادا وينأى القارئ عنه لأنه “قد قرأه”.
والمعنى أيضا “واقعي” في حدوثه، ليس فعلا يتأتى من كائنات فضائية، بل هو يومي جدا ويمشي مع الناس في الطرقات، مشية مخالسة لأنه يظل دوما فائض نقصانهم، ولذا فهو يعاف الكلمات الأشبه بالأشواك والحصى، تلك الكلمات التي تشوهه لتحكم باسمه، يستثقلها جدا بل ولا يعرفها أيضا، يبتسم مستفهما ثم يقول: هل يعنونني أنا؟
قدرهم أن يبنوا معابد لآلهة ابتدعوها غيا ثم نصبوا ذواتهم كهنة لها، فلما لم يزرهم العابدون احتجوا وقالوا: “لم يفهمنا أحد”.
إنهم شظايا كونية تائهة، وليس تيها نبيلا كما يظنون بل هو تيه الغبار الكوني الذي هو فضلات الكون.
الشعر ليس وحيا من السماء، ولا حتى كلاما يقوله الناس البسطاء.. إنه بالضبط أشبه بالقنديل المضيء، فلا هو زجاج ولا هو ضوء، بل إنه هذا الامتزاج بين المادي التاريخي والخيالي الأبدي، ليس إبحارا في الخيال والتوهمات وليس نداء باعة على بضائعهم، إنه وزنة موسيقية شديدة التفرد، وزنة لا قانون لها أو طريقا بعينه يتبع، لأنها شديدة الحساسية تجاه أي تكرار وتقليد، هي وزنة لها صوتها الموسيقي المغايّر لتقول تألقها وسطوعها، إنها مشي بالملعقة على حبل السيرك، أقل حركة زائدة بها تطيح بحضور الجمال ويتصير الشعر محض كلام من ماء وتراب، لكل نفس دربها ومذاقها وتردد لونها، تردد كفيل بجعل الشعر محروسا بالأبدية.
إن إكسير الخلود ليس خرافة بل هو دائم الحضور متى ما حظينا برؤية التماعته، رؤية تحتاج إبصارا من نوع خاص، إبصارا بريئا كطفل وعارفا كحكيم، إبصارا يدخل الصيرورة كل مرة لأول مرة تماما كما نتنفس الأوكسجين كل مرة لأول مرة، إبصارا سامحا لما يُرى أن يفصح عن نفسه فلا يملي عليه تجارب رؤاه.. إبصارا بريئا عامرا بالشك في نفسه ومنفتحا على تجدد الحدوث وتجدد احتمالاته.
اللمحة الخاطفة في الامتداد.. اللمحة التي قالت كل شيء ولم تقله.
هكذا يظل الشعر “شابا إلى الأبد”.
حينما تقرأ شعر أنس مصطفى تستشعر شاعرية الإحالة الملهمة إلى خيالك وإلى امتداد الكلمات صوب كلام لا مرئي يحيا بين هوامشها، الكلمات عند أنس هي طيور تسبح في الفضاء في سفر طويل لا تحيطه مادية الكلمة أو الصفحة، وأحيانا تكون أزهارا أو بيوتا مهما خفتت أضواؤها يظل الحنين زائرها الأبدي.
بيد أن طيور أنس وهي تحلق لا تراها تحلق كسرب للمعنى، بل إن كل طائر بينها هو مسكون بالأفق و بالمعنى بطريقته الخاصة، “ممسوس بالمعنى بكيفه”، لسنا إزاء “خطبة للحنين” بل في إصغاء شديد الثراء للطائر في حيزه من التحليق وهو الحيز الذي يصنعه الحيز الذي يجاوره، وما يصنع الحيزان صوب حيز ثالث، إننا لا نعبر من لفظة إلى معنى، لا نعبر في أي مباشرة أو قول نهائي بل إننا في أفق شديد الحركة شديد التداخل معطيا في النهاية” ملمح المعنى” المعنى المنفلت بدوره من ملمحه لكونه هو الآخر ملمح للحقيقة.
الكلمات في أكف أنس معاودة مستمرة و إلحاح على الاستغراق فيها، ما أن تقلب الصفحة حتى تستشعر أن الطيور قد عاودت سفرها والبيوت تتأمل مغاربها، وكأنك كنت محض كاميرا فوتوغرافية جمدت في صورة فوتوغرافية ما شأنه المضي الأبدي.
والمعنى الأنسي يحيل الكلمات محض دلالات، محض آثار مؤقتة لانثيال جوه الرؤيوي والمجرة التي تملأ مادته الصامتة المظلمة.
أشعار الهايكو اليابانية أيضا وإن كانت شحيحة المعنى لكنها بضئيل معناها ذاك فإن الكلمات تستعيرُ تدفق الطبيعة وازدهارها المستمر، وإن كانت استعارة باردة وكما هي، تماما كمن يقطف الثمرة دون أن يأكلها.
إن المعنى في جوهره “حاصل العلاقة” انفعال النفس بالحياة وبالطبيعة، طعامها منها والروح الجديد المتولدة من ذلك الاتصال، إنه “اللمسة البشرية” على صخر الطبيعة و “صوته” بين أصواتها، إنه “طيته” من السديم بتعبير چيل دولوز.
إنه ليس إصغاءً بحتا، وليس قولا بحتا إنه بالأحرى “صدى” الذي هو تفاعل بين الطبيعة الحية والطبيعة البشرية الحية.
إنه “المسار الذي في المسار” فلا هو انمحاء بحت لصالح المسار كشعر الهايكو ولا هو انمحاء للمسار المحيط لصالح المسار الخاص كما يفعل مأمون التلب وجماعته، حينما يتصير الشعر هذيانا أكثر من كونه “احتفالا بجمال الإحالة التي وهي تحيل تكون جزءاً من جمال ما تحيل إليه وتصطلي بنوره”.
المسار المحمود درويشي هو خير مرآة ترينا “صيرورة الفوارق” فدرويش بعكس أنس الذي “صرعه المعنى” فذاب فيه جدا لدرجة أن أنس لا يمكن استحضاره أو استذكاره إلا حينما يقرأ، بعكس درويش بحكم تجربته” الشديدة الدنيوية” إزاء أنس الروحاني الحالم.
درويش يعيد المعنى إلى الأرض ويصبر على قلق معناه في حيز الجسد، صبرا أودى به في النهاية إلى “مرض شرايين القلب”، رفض درويش إطلاق “سراح المعنى” فأمسك “جمرة اللغة”، كان فدائيا جدا كفدائية بروميثيوس وهو يسرق النار من آلهة الأولمب ويمنحها لنا.
البرية الدرويشية هي المدينة والمقهى وأسوده عالية الزئير الميكانيكي، إنه يرى هذه البرية الشرسة التي في قلب المدن الأسمنتية، يرى في تلك البربرية البرية “تألق المعنى وتغير شكله”، لذا فقد كان شاعرا “من قلب المعمعة” و ليس كأنس الذي وإن كان في هامش المعمعة إلا أنه بكى منها واحتمى بطفولته، وبماضيه أحيانا أخرى، “تأريخ معناه الخاص”.
لذا درويش مقيم بيننا جدا، مقيم في عزلتنا بين المعية، كلماته مثل المارة في شوارع المدن الأوربية والعواصم العربية التي صنعها المستعمر، إنه صدى “لقاءات عدة وأشد تشابكا”.
إن درويش قبل الشعر لديه “رؤية شعرية” شديدة الحساسية لإيقاع اليومي ولإيقاع الأبدية، إيقاع اليومي عبر استعماله للغة خفيفة أو كما وصفها هو في نصه لاعب النرد “أو كريش في الظلام” خفة مستساغة وراهنة، وأبدية من ناحية “ثقل المعنى”، إن درويش وككل ثقب أسود كان يعلم أن القوة والديمومة والجاذبية ليست في القول بل ما في وراء القول، في “الإحالة” الإحالة المنخرطة في دورها في حوار شبكي مع كل الإحالات، معاني المعاني التي هي معاني لمعان أخرى، كان محترفا في جعل الكلمات تقود إلى الشعر عبر التساؤل والانفتاح على الكليات الخالدة الملازمة للنفس البشرية، أعني كليات الوجود والجمال والحب والسياسة، لم يكن مستغرقا في اليومي بل ناقلا هذه التأملات والمواقف إلى أفق “فوق زمني” عابر للانتصارات والشعارات الأيديولوجية عبر فتحها على “فلسفة التاريخ”، والذهاب إلى الماضي للحديث عن الحاضر، والإصغاء إلى الحاضر بوصفه شجرة لبذرة الماضي، “راجع مقالي في الحوار المتمدن: من تاريخ التفكيك إلى تاريخ الصيرورة” .
إنه يوقظنا وباستمرار من الغرق في فناء اليومي ليجعل من هذا الفناء أثرا لخلود يتجاوزه ويتجاوز كلماته برغم استبسالها في الحياة، إنه يفتح مأساوية التلاشي على بهجة الميلاد الجديد، ميلاد يحرضنا على التوق إليه والتأمل فيه فيكون قلبنا بمثابة المغنى لعرس لن يشهده لكنه يشم رائحة يوسفه.
إنه يضع المسبار اللفظي على تخوم الغلاف الجوي، ثم يطلقه من بعدها ليلتحق بآلاف النيازك ورسائل الحياة المبتعثة للمجاهيل القصية، المجاهيل التي ينسرب منها ولوهلة كوكب مثل كوكبنا.
وصل محمود بالشعر إلى الغلاف الجوي ضامنا شبابا أبديا، ومن ثم أدرك أن هذا الشباب هو رهين كهنة كونيين فناداهم وانسحب من وجههم لائذا بقدرتهم مكتفيا بأنه حي وحر حين ينسى.
إلى هذا الحد.. إلى هذا الشجن… شجن أشعار المدن الغارقة ومثابرتها نحو الخلود المجهض وضع درويش جماليته بوصفها تجليا لشاعرية الصيرورة.. الصيرورة التي تفوقه شاعرية وجمالا و قدرة على الإحالة.. تماما كما يفعل الأنبياء.