ثمار

قِيَامَةُ الزِّئْبَق!

(فَصْلٌ مِن السِيرَةِ الغَيْريَّة لمَرْجَانْ مُورْغَانْ مَارْغَايْ)

(1)

لن تكون بعُدتَّ عن الحقيقة كثيراً إنْ أنت قدَّرتَ أنَّ الاسم، مجرَّد الاسم، كان هو أوَّل ما جذبني إلى صداقة فارع الطول ذاك، رياضيِّ القامة، عميق السَّواد، وسيم التَّقاطيع، منذ بداية تعارفنا، أواخر العام 1968م، ونحن، بعدُ، زغب في بواكير أيَّامنا الأولى بكليَّة القانون الدَّولي والعلاقات الدَّوليَّة بجامعة كييف. لا ريب، بالطبع، في أن تلك الصَّداقة تعزَّزت، في ما بعد، على نحو خاص، بفضل شهامته، وقلبه الطيِّب، وطبعه اللطيف، ونفوره المتأصِّل من الابتذال، وثقافته الفنيَّة والسِّياسيَّة الرَّفيعة، وطاقته المدهشة على الكتابة الإبداعيَّة، وذائقته العالية في الغناء والموسيقى، الكلاسيكيَّة بالأخص، وإلى ذلك حماسه المُعدي لثورة الطلاب، ولليسار الجَّديد، ولحركة الحقوق المدنيَّة الأمريكيَّة في طور مُدرَكها الهُويوي الذي كان اجترحه، أوان ذاك، ستوكلي كارمايكل وزوجته مريم ماكيبا، ليُلهما به نضالات ملايين السُّود، خصوصاً الشَّباب والطلاب، في شتَّى أنحاء العالم، تحت شعارات “القوَّة السَّوداء ـ Black Power”، و”الأسود جميل ـBlack is Beautiful” وغيرها. لكنني أكذب، قطعاً، لو لم أسارع إلى الإقرار بأن ذلك كله كان مِمَّا تكشَّف لي، لاحقاً، عبر صداقة كانت قد توطدت أصلاً. أما بدايتها الأولى، لحظة بدايتها الأولى تحديداً، فقد كانت، فحسب، حكراً على اسمه .. اسمه وحده!

وقع ذلك مساء نفس يوم وصولي. التقينا، بالمصادفة، على الدَّرج الصَّاعد إلى الطابق الخامس، حيث كانت تتجاور، بالمصادفة أيضاً، غرفتانا بالرقمين 51 ـ52. كنا عائدَين، للتوِّ، من عشاء متأخِّر بالمطعم الكائن في الطابق الأرضي من نزلنا الطلابي على شارع كراسنوزدفوزدنيي الضَّاج بالحركة. أبطأ من خطواته شيئاً، ومدَّ يده يصافحني، ونكهة حساء البُورش التي تنشع من المطعم تتلاشى خلفنا، قائلاً، بابتسامة عذبة، وبصوت عميق أجش كأنه طالع من تجويف فونوغراف ماركة “صوت سيِّده”:

ـ “هاي .. روبرت ديفيد مورغان من سيراليون .. أصدقائي ينادونني بمورغان”!

قفز إلى ذاكرتي، على الفور، سميُّه، بل شبيهه، حدَّ التَّطابق، في الطول والوسامة والسَّواد النَّاعم والابتسامة الآسرة، أسعد محمود مرجان، والذي كنَّا نناديه، تحبُّباً، بمورغان، فألفيتني أقول بحماس:

ـ “نعم .. نعم، لقد غنيت يا رجل في حفل وداعي بالحيِّ ليلة البارحة، أو .. لعلها أوَّل البارحة، كما لم تغنِّ من قبل .. حتَّى مطلع الفجر”!

سألني والحيرة تغلف ابتسامته المرتبكة:

ـ “مَنْ .. أنا”؟!

أفقت من لحظة القطع السُّورياليَّة تلك على إحساس خاطف بالحرج، فعدت أصافح اليد الممدودة، قائلاً:

ـ “أوووه .. معذرة! لا عليك .. كمال .. كمال الجزولي من السُّودان”!

(2)

كان أسعد مورغان نديداً بديعاً في مراتع طفولتنا وصبانا بأم درمان، وزميلاً باهراً خلال مراحلنا الدِّراسيَّة من الكُتَّاب إلى الثَّانوي، بل كان أوَّل دفعتنا، وكان صديقي. كان كثير التَّهذيب، فائق الرِّقَّة، مشبوب العاطفة، تطفر دمعته لدى أبسط موقف إنساني؛ ومع ذلك كان يعدُّ نفسه للالتحاق بالكليَّة الحربيَّة!

كان الإبن الوحيد لأم مصريَّة من طنطا، هي العمَّة نعيمة، القصيرة البدينة المرحة التي تشرف على صندوق ادِّخار صغير لنساء الحي، وأب نوباوي من قدامى مُسرَّحي قوَّة دفاع السُّودان، هو الخال محمود مرجان، كثير الوقار والتَّديُّن والصَّمت، والذي اتَّخذ لنفسه، بعد حياة الجُّنديَّة، لوري بدفورد يجوب آفاق الغرب، أغلب شهور السَّنة، حتى يبلغ نواحي أبَّشي وفورتلامي وبانقي، يجلب إلى سوق أم درمان الأقمشة وفِرَك القرمصيص والعطور الباريسيَّة الأصليَّة، وقد يجلب من الطريق، أحياناً، التُّمباك وعسل النَّحل وبعض المحاصيل. غير أنه لم يسلم من القيل والقال، همساً، بأن ما ظهر من تجارته تلك لم يكن وحده هو مصدر ثروته الطائلة، فثمَّة ما بطن أيضاً! ولكم يشرِّق الكلام، في حيِّنا، ويغرِّب، بالحقِّ أو بالباطل! لكننا، والشهادة للـه، لم نرَ منه أو من أهل بيته، طوال عشرتنا معهم، ما يشين، ونحن الذين نعمنا بجيرتهم عُمراً بأكمله، يفصل بين بيتينا حائط قصير يتوسَّطه نفَّاج صغير، فكانوا لنا أكثر من أهل، بل كانوا نعم الأولياء الحميمين.

الغريب أن مورغان، برغم صداقتنا وتلازمنا الوثيقين في الحيِّ والمدرسة، وبرغم شغفنا المشترك بالاطلاع الذي لم تكن لتكفينا فيه كتب المقرَّر الدِّراسي، فنسعى إليه، نهارات الجُمَع، بمكتبة أم درمان المركزيَّة، كان ينأى بنفسه، على عكسي تماماً، من النَّشاط السِّياسي، وبالأخصِّ في المنظمات اليساريَّة السِّريَّة والعلنيَّة! غير أنه، في ما عدا ذلك، كان نجماً في الكشَّافة، وجمعيَّة الرِّحلات، وجمعيَّة الموسيقى، والجمعيَّتين الأدبيَّتين العربيَّة والانجليزيَّة، وفرق المدرسة الرِّياضيَّة الأولى. وعلى حين كنا نفصِّل ملابسنا لدى ترزيَّة فيراندات سوق أم درمان، ونشتري أحذيتنا من شركة باتا، كان هو يقتني بناطيل الموهير، وأقمصة النَّايلون، والأحذية والصَّنادل الجِّلديَّة الفاخرة من محلات مرهج وبون مارشيه بالسُّوق الأفرنجي بالخرطوم، كما كان الوحيد بيننا الذي يمتلك درَّاجة هوائيَّة. كان، باختصار، يبزُّنا في كلِّ شئ، كلِّ شئ .. من الأناقة إلى الثَّقافة، ومن السِّباحة إلى تنس الطاولة، ومن كرة القدم إلى كرة السَّلة، مع براعة في الشِّطرنج، والدُّومينو، وألعاب الكوتشينة أجمعها، والعزف والغناء على الجِّيتار الكلاسيكي، مثلما أوتي سحراً عجيباً في اجتذاب قلوب الحسناوات .. سواء في حيِّنا والأحياء المجاورة، أو في ثانويَّة البنات القريبة من ثانويَّتنا، نراهُنَّ يتنافسن على كسب ودِّه بهداياهِنَّ الصَّغيرة من طواقي المنسج، وعطور الرِّفدور، والفرير دامور، ومناديل الحرير مشغولة الأطراف بالتِّرْتِر الملوَّن، مثقوبة القلوب، في أركانها، تقطر دماً بسهام كيوبيد! لكن حياءه الفطريَّ كان يفقع مرارتنا غيظاً حين نراه يحول بينه وبين مجاراتِهنَّ، وبالأخص عوضيَّة الماحي .. وما أدراك ما عوضيَّة الماحي! فنروح نمصمص شفاهنا حسرة، ونتهامس، ونحن نرقِّص حواجبنا هزلاً، على طريقة الأفلام المصريَّة: “يِدِّي الحَلأ للِّي مَلُوش وِدان”!

كان بيتهم الشَّاهق قائماً وسط بيوتنا الواطئة، كما الرَّبوة المرتفعة وسط السَّهل المنبسط، بطوبه الأحمر، وبلاطه الأبيض والأسود، وفيرانداته الرَّحبة ذوات العُمَد، وسقفه القرميدي داكن الحُمرة، وشيش أبوابه ونوافذه غامق الخضرة، وبوَّابته الحديديَّة يتوسَّطها وجه أسد فولاذي لأغراض طرقها، وأشجار نيمه الكثيفة تحفُّ بأسواره العالية المُتوَّجَة بدرابزين حديدي على هيئة حراب قصيرة متكرِّرة. وكان الخال آدم اب اضان، وقد سُمِّي هكذا، على ما يبدو، لبَرَص قديم في أذنه اليمنى، يقوم على خدمة هذا البيت بإخلاص، بما فيها الطبخ، وريَّ الأشجار، وقيادة سيَّارة الخال محمود الهمبر السَّوداء، وذلك مذ وعينا على الدنيا، بل، كما قيل لنا، منذ ما قبل ولادة مورغان بُعيد نهاية الحرب الثَّانية.

وكنا نعجب كيف كان مورغان يجمع بين التَّفوِّق في الرِّياضيَّات، واللغات، وجغرافيا سيحون وجيحون والهلال الخصيب، وتاريخ حروب بسمارك ونابليون وهنري الخامس وسائر أباطرة وأمراء وأرشيدوغات أوربا القديمة، وبين القدرة على حفظ وترديد أغاني مشاهير مغنيِّي الجَّاز والبلوز، وتتبُّع سِيَرهم، من آرمسترونق إلى ري تشارلس، ومن أريثا فرانكلين إلى ستيف وندر، ومن توم جونز إلى جيمس براون، ومن أوتس ريدنق إلى أولاد جاكسون الخمسة مطالع سطوعهم. وكان، إلى ذلك، شغوفاً بنجوم هوليوود، يعرف آخر أخبارهم، ويحكي لنا، في الأمسيات، تحت عمود النُّور في شارعنا، قصص أفلامهم، فتجدنا ننجذب إلى حكيه فاغري الأفواه، لكأن على رؤوسنا الطير، أو لكأننا لم  يسبق أن شاهدنا نفس تلك الأفلام معه بسينما بانت أو العرضة أو غيرهما من سينمات السُّوق الكبير! كانت لديه طاقة مدهشة على الحكي الذي يأسر الألباب. وكان، مع حفظه تفاصيل تلك الأفلام عن ظهر قلب، يضيف إليها، قَطعاً من رأسه، فيشرِّق ويغرِّب، ونحن، للعجب، نستزيده مِمَّا فعل هذا ولم يفعل ذاك! وكانت صور جاك بالانص وريتا هيوارث وبيتر اتول وأنتوني كوين وصوفيا لورين وسبنسر تريسي وإليزابيث تيلور ومارلون براندو ورتشارد بيرتون وغيرهم، يأتي بها من بعض معارفه بالسِّينما الوطنيَّة، تغطي جدران غرفته النَّظيفة، المرتَّبة، المعطرة، دائماً، ببخور العمَّة نعيمة، والثريَّة بمقتنياته الفريدة من الكتب والمجلات والأسطوانات ومختلف أدوات الرِّياضة والأجهزة والآلات الموسيقيَّة.

(3)

بقينا نتراسل قرابة السَّنتين بعد مغادرتي السُّودان. وقد أسفت حين أخبرني بأنه فشل في الالتحاق بالكليَّة الحربيَّة بلا سبب واضح! كما أسفت حين علمت، أيضاً، من رسائله باقتضاب، ومن رسائل الأصدقاء تفصيلاً، أنه تورَّط في زواج باكر عجول أحيط بثرثرة هامسة، بلا يقين؛ ثمَّ سرعان ما آل إلى فشل ذريع، فانهار بطلاق عجول، هو الآخر، في ذات الشَّهر، دون أن يُعرف السَّبب! الحقيقة الوحيدة التي باح لي بها في شأن كلِّ تلك الأحداث الجِّسام هي أنها أورثته إحباطاً مديداً، وعزوفاً عن مواصلة الدِّراسة بالسُّودان، فصار يقضي جُلَّ نهاراته إما في معاونة والده في تجارته، أو في السَّعي ما بين السَّفارة البريطانيَّة والبريتش كاونصل، أملاً في الحصول على منحة لدراسة علم النَّفس بجامعة لندن. بعدها أخذت رسائله تخفت، تدريجيَّاً، حتى تلاشت، أو قل انقطعت نهائيَّاً.

في وقت لاحق أنبأني الأهل والأصدقاء بنبأ عجيب حزنت له طويلاً، وإن فسَّر لي سبب انقطاعه عن مراسلتي. فقد توفيت العمَّة نعيمة فجأة، ذات مساء، إثر أزمة قلبيَّة مباغتة. وبينما كانوا يجهِّزون جنازتها، انخرط الخال محمود، المريض بالضغط أصلاً، والذي لم يستطع تحمُّل صدمة رحيلها، في نحيب مرير، والرِّجال من حوله يحثونه على الاستغفار وطلب الرَّحمة لها. سوى أنه ما لبث، وسط نهنهاته، أن شهق شهقتين مفزعتين أسلم بعدهما الروح منكفئاً على فراش موتها!

هكذا خرجت جنازتاهما معاً، إلى حيث ووريا الثَّرى، على ضوء الفوانيس الكابي، في قبرين متجاورين بمدافن الشَّيخ حمد النِّيل!

بعد أشهر من تلك الواقعة حملت إليَّ رسائل السُّودان ما فاقم من زعزعة طمأنينتي لهذه الحياة! لقد دخل مورغان في حالة من الذُّهول، فتكثَّف شعر رأسه، وانسدلت لحيته، وطالت أظافره، واتسخت، وصار يُرى هائماً على وجهه في طرقات المدينة وأسواقها، حافياً، رثَّاً، متَّسخ البدن، زريَّ الهيئة، تتدلى سبحة لالوب هائلة من عنقه إلى أسفل بطنه، يطارد الخيول والحمير والكلاب الضَّالة بطعام يتوهَّمه في كفَّيه الفارغين، بينما يطارده صبية الأحياء البعيدة، يحصبونه بالحجارة، والضَّحكات السَّاخرة، والإشارات والأهازيج الجَّماعيَّة البذيئة!

(4)

زلزلت تلك الأحداث أعماقي بعنف. ثم جاءت، ضغثاً على إبالة، إعدامات يوليو 1971م للضُّبَّاط الذين حاولوا الإطاحة، يومها، بنظام الطاغية جعفر نميري، والمدنيِّين الذين اتُهموا معهم، لتقضي على ما تبقى من معنويَّاتي في غربتي الشَّاهقة تلك، خصوصاً وقد انقطعت مراسلات الأهل والأصدقاء، بمن فيهم، بطبيعة الحال، أسعد مورغان! لكنَّ علاقة الصَّداقة التي كانت قد ترسَّخت بيني وبين روبرت مورغان، أعانتني، مع كرِّ مسبحة الأيَّام، على محنتي شيئاً، وأزاحت عن كاهلي غير القليل من عبئها الباذخ!

كنا نذهب إلى الكليَّة معاً، ونعود منها معاً، ونتناول وجباتنا معاً، وننجز واجباتنا الدِّراسيَّة معاً، ونتسكَّع في عطلات نهاية الأسبوع بجادَّة كريشاتيك معاً، ونغشى المسارح والمعارض والسِّينمات والمكتبات والمنتديات الأدبيَّة والفنيَّة معاً، مثلما كنا نقضي عطلتي الشِّتاء والصَّيف أيضاً معاً، إما بالسَّفر إلى هلسنكي أو براغ أو لندن أو برلين الغربيَّة، أو في الرَّاحة ببعض مصايف البحر الأسود، أو في العمل بمزارع العنب في بعض نواحي الرِّيف الأوكراني. باختصار لم نكن نفترق إلا في ساعات النَّوم، أو حين تكون في البرنامج .. امرأة!

لم يحدث، طوال تلك السَّنوات، وعلى العكس من سائر الطلاب الأفارقة بالذات، أن عرفت له صديقة، أو سمح بأن تتجاوز علاقته، حتى مع أيٍّ من مُساكِناتنا في النُّزل، حدود زمالة الدِّراسة! كنَّ، من جانبهنَّ، يصفنه بأنه جنتلمان ومختلف، ويُحِلنَ الأمر برمته إلى تهذيبه وحيائه الشَّديدين! أما هو فكان يلخِّص كلَّ من حاولت الاقتراب منه بعبارته الأثيرة:

ـ “ليست فنجان شايِّي المفضَّل”!

قلت له، مرَّة، عندما طفح الكيل:

ـ “يبدو أن أوراق شايك هذه مزروعة في زحل”!

فردَّ ضاحكاً:

ـ “أبداً .. كلُّ ما هنالك أن سيِّدة روحي لم تولد بعد”!

عددتُّ عبارته تلك نوع غرور، أو نزق شاعري، ولم أناقشه؛ فذاك مزاجه الشَّخصي، على أيَّة حال، وهو حُرٌّ فيه!

هكذا بقي موضوع النِّساء خارج أجندة علاقتنا! أما في ما عدا ذلك فقد كان زورق صداقتنا يمخر بأشرعة ملؤها الصَّفاء، لا يعكِّر من سلاسة إبحاره سوى شئ واحد .. نوبات البكاء التي ليس نادراً ما كانت تباغت مورغان، في أيِّ مكان، وبدون أيَّة مقدِّمات، حتى يورم أنفه، وتنتفخ أوداجه، وتحمرَّ عيناه! في البداية كنت ألح عليه، إلحاحاً شديداً، لمعرفة السَّبب، وكان هو يصرُّ على التزام تكتُّم عنيد ليس نادراً ما كان يوقفنا على مهاوي الخصام! لكنني، بعد أن لاحظت أن تلك النَّوبات كانت تريحه شيئاً، وأن تكرار إلحاحي أضحى يهدِّد صداقتنا بجديَّة، وطنت نفسي على تقبُّل الأمر على علاته، والتَّعايش معه بعاديَّة غير عاديَّة!

كان يصرُّ على أن أترجم له تجاربي في الشِّعر من العربيَّة إلى الإنجليزيَّة أو الرُّوسيَّة. وكان يعجب بها رغم إحساسي، أنا نفسي، برداءة التَّرجمة! وكنت الوحيد الذي يسمح له بالاطلاع على تجاربه في السَّرد بإنجليزيَّته النَّاصعة. كان ينسخ قصصه الطويلة والقصيرة بخط جميل، وعناوين ملوَّنات، في دفتر بُنِّي الغلاف. وكانت قصصاً ممتعة، أبطالها محتشدون بالحياة حتى لتكاد تلمسهم بيدك؛ لكنه كان، لسبب ما، يدفعهم أجمعين إلى مصائر في غاية الغرابة، وإن لم يكن يحيد، في ذلك، قيد أنملة، عن سياقات الضَّرورة الفنيَّة!

سألته، ذات مساء، ونحن في غرفته، بعد أن أنهينا الإعداد لسمنار الغد الرَّاتب في الصَّف، وجلسنا نحتسي القهوة بالحليب قبالة المدفأة، بينما الصَّقيع يقرقع على النافذة، وكتبه ومجلاته واسطواناته تنتثر حولنا في فوضى بديعة:

ـ “مورغان .. لماذا لم تفكر في النَّشر .. ثمَّة دوريَّات كثيرة تهتمُّ بأدب الشَّباب”؟!

صمت برهة، ثمَّ أجابني، بأخفض درجات صوته الأوبرالي، وهو مكبٌّ على جهاز راديو ضخم، يبحث فيه عن بعض المحطات:

ـ “الخوف يا صديقي .. الخوف من الحرج الاجتماعي البدوي الأفريقي! فمعظم أبطال هذه القصص أحياء، في فريتاون،  يرزقون، وبينهم أصدقاء وأقارب لي”!

ـ “دعك من هذه الترهات! من قال لك إن أبطال تشينوا أشيبي، مثلاً، جميعهم من نسج خياله”؟!

أطلق ضحكة مجلجلة، وقال، وسط قهقهاته، دون أن يحوِّل عينيه عن جهاز الراديو:

ـ “أين أنا، يا صاحبي، وأين أشيبي”!

وقبل أن أقول شيئاً استرسل، وأصابعه ما تزال مشغولة بتحريك مفتاح الموجات:

ـ  “عارف .. حين كنت صبياً كان لدينا في البيت جهاز كهذا؛ ولمَّا أطلقت الكلبة لايكا إلى السَّماء السَّابعة، ثرثر الجِّيران بأن الرُّوس سيدهنون القمر، تلك الليلة، باللون الأحمر! كنت الإبن الوحيد لأبي وأمي، وكانا، ساعتها، خارج البيت، فلم أجد من أهرع إليه، لاهثاً، بالخبر، ليساعدني في تسلق السَّطح لرؤية المشهد البديع، سوى جدَّتي المتغطرسة، المتسلطة، القابعة في موقعها الأثير خلف ماكينة الحياكة، ما تنفكُّ تزعم صباح مساء أنها ورثت نعومة شعرها الفضِّيِّ الجَّميل من جدها لأبيها المنحدر من سلالة لا تزال تستوطن جنوب مصر! لكنها زجرتني قائلة، وهي تغلق، من وراء نظاراتها الطبيَّة، عيناً، وتحاول تدقيق النظر بالأخرى، تماماً كمن يحاول إدخال الجَّمل في سَم الخِياط:

ــ “دع الكلام الفارغ والتفت لدروسك”!

ثمَّ ما لبثت، كعادتها حين تريد الافصاح عن امتعاضها، أن عوجت فمها، ومطت شفتيها، وكزَّت على أسنانها، وبصقت، وراحت تبرطم:

ــ “عجيبة .. لم يبق غير أن تصدِّق كلَّ كفر يلغو به هذا الراديو اللعين”؟!

انتبهت، لأوَّل مرَّة، إلى حقيقة أنه الابن الوحيد لوالديه! ثمَّ علمت منه أن أباه ضابط متقاعد بالجَّيش السِّيراليوني، ويعمل، منذ حين، إداريَّاً بإحدى الشَّركات التِّجاريَّة، وأن أمَّه معاونة في جمعيَّة نسائيَّة لنشر الوعي بمضار تناول الحوامل لطين “وسو”! أما حكايته مع جدَّته فقد بدت لي، للوهلة الأولى، خارج السِّياق، ومع ذلك أضحكتني! لكنه كان، في تلك اللحظة، قد استكمل ضبط الموجة على دقات بق بن، وولج، كعادته، إلى ما كان يسمِّيه “طقس البي بي سي”، في مثل ذلك الوقت من مساء كلِّ يوم، حيث لا يحبُّ أن يزعجه شئ، فلم نعد لمواصلة الحديث!

(5)

مع إعجابي بكلِّ قصصه، إلا أن واحدة منها ظلت تشغلني على نحو خاص، ربَّما لأنها لم تكتمل حتى أنهينا دراستنا بالكليَّة. فلسبب ما لم يضع لها نهاية طوال تلك السَّنوات. كان بطلها، برنس مارغاي، شاباً سيراليونيَّاً يشعُّ وسامة تقرب من الجَّمال، ويرتع، إلى ذلك، في ثروة طائلة آلت إليه، منذ صباه الباكر، باعتباره الوارث الوحيد لوالده الجَّنرال السَّابق في قوَّة حرس السَّواحل، خلال سنوات ما بعد الاستقلال، والذي كان قد شرع في تكديسها حتَّى قبل خروج الانجليز، على حدِّ همس الزَّوايا في فريتاون، وذلك بفضل قابليَّته الفطريَّة للفساد، وبعض خياناته الوطنيَّة هنا وهناك، وعلاقاته المشبوهة مع موظفي الإدارة الاستعماريَّة ومهرِّبي الماس. وكان يبرِّر خبطاته تلك بالتَّواطؤ مع نفسه، في كلِّ مرَّة، موسوساً لها بأنه إن لم يفعل، فثمَّة آخرون كثر جاهزون، على أيَّة حال، ليفعلوا في أيِّ وقت!

لكن مارغاي، برغم وسامته وثروته الظاهرتين، كان يحتشد، في الباطن، بتعاسة فارهة، ويضرب على نفسه عزلة بلا ضفاف! كان، في الحقيقة، غريب الأطوار، يسكن أعزباً في قلعة ضخمة، عالية الأسوار، كثيفة الأشجار، صمَّاء البوَّابات، مع طبَّاخة عجوز، وسائق أهتم، وبستاني ريفي، ويكاد لا يندُّ من عالمه الخفي ذاك سوى صوت بعيد لموسيقى غريبة! ولم يكن يُرى، حين يُرى، إلا واضعاً على عينيه نظارة سوداء، وملفوفاً، صيفاً وشتاءً، في ملابس صوفيَّة ثقيلة، وفارداً فوق رأسه، خريفاً وربيعاً، نهاراً وليلاً، شمسيَّة هائلة، داكنة اللون! وكان خلواً تماماً من الأصدقاء، وبالأخصِّ من الصَّديقات! وكان يبدو، عموماً، كمن يرزح تحت وطأة سرٍّ يحرص، كالغراب، على ألا ينكشف ولو ملمح خيط واهٍ من قماشة غموضه السَّميكة لكائن من كان!

ولأن ذلك كله مِمَّا يستثير، في العادة، شهيَّة الأحاجي في تلك المدينة الأطلسيَّة، فقد أشرعت نوافذها على رياح شائعات تتلبَّس، كما في دارج الأسمار الأفريقيَّة، سمت العلم ببواطن الأمور؛ فمن قائل إن للأمر صلة بعلاقة غريبة بين أمِّه وأبيه! ومن زاعم أن مارغاي ليس غير الجَّنرال نفسه بُعث من موته على تلك الهيئة، كونه ينحدر من سلالة عُرفت بمثل تلك الأمور! ومن حالِفٍ بأن الجَّنرال كان، في الحقيقة، عقيماً، وأن مارغاي ذاك ليس، أصلاً، سوى صناعة غير مكتملة لسحرة مأجورين .. وهكذا!

بعد خمسة أعوام من الدِّراسة الشَّاقة تخرَّجنا. وجاء موعد مغادرة مورغان إلى بلده سابقاً لموعد مغادرتي أنا بأيَّام ثلاثة، فأقمنا له، في ليلته الأخيرة، حفل وداع مشهود غنى فيه وعزف على الجِّيتار الكلاسيكي كما لم يغنِّ أو يعزف من قبل. فجر اليوم التَّالي رافقته إلى المطار، ولمَّا آن أوان عناقنا الأخير، فتح حقيبة يده، والدموع تترقرق في مآقيه، وأخرج الدَّفتر بُنِّي الغلاف يدسَّه في حقيبة يدي، قائلاً:

ـ “لم أعُد أحتاجه. أعلم مدى شغفك به. ستجد فيه مفاجأة بانتظارك .. الفصل الأخير من مارغاي! كتبته ليلة البارحة بعد أن انفضَّ السَّامر؛ فقد عزَّ عليَّ، إكراماً لك، أن أتركه بلا نهاية! وستجد أيضاً عنواني البريدي في فريتاون، فتذكَّر، عندما تكتب لي أوَّل رسالة أن تضمِّنها عنوانك في الخرطوم، وأعدك بسرعة الرَّد. سلام”!

……………………….
……………………….
شُغلت خلال الأيَّام الثَّلاثة التَّالية بإنهاء إجراءات سفري، وودَّعني الأصدقاء والزملاء بحفل آخر افتقدت فيه مورغان بشدَّة، حتى أن الدمع طفر من عينيَّ حين خطر لي أنني قد لا أراه ثانية.

في مساء اليوم الثَّالث توجَّهت إلى المطار. وما أن أقلعت طائرة الإيروفلوت حتى أخرجت الدَّفتر بُنِّيَّ الغلاف، وفتحته على الفصل الأخير من مارغاي، فألفيته، كما توقَّعت، مصاغاً بشكل مدهش، وإن كان لا يشفي غليلاً، برغم مآل مارغاي الفاجع، حيث انتهى، ذات خريف مدرار، قتيلاً، مفصول الرَّأس، تحت دغل صغير من أشجار كثيفة، ملتفة الأغصان، في ركن قصيٍّ من حديقة قلعته الواسعة!

لم تُكتشف الجُّثَّة الغارقة في الوحل إلا بعد عدَّة أيَّام انتفخت، خلالها، وتعفَّنت، وفاحت رائحتها، وحلقت جوارح المحيط فوقها! وإن هي إلا ساعة، أو بعض ساعة، حتى سرى الخبر في نواحي المدينة سريان النَّار في الهشيم. فهرعت إلى القلعة فيالق الشُّرطة بمصوِّريها المتخصِّصين، وكلابها المدرَّبة، وفرق من خبراء البصمات، والأطبَّاء الشَّرعيِّين، ومحقِّقي النَّائب العام، وقدامى أصدقاء الجَّنرال من الرَّسميين النِّظاميِّين والمدنيِّين. ذرعوا المكان وما حوله طولاً وعرضاً، ووجَّهوا بضعة أسئلة مبدئيَّة للطبَّاخة العجوز، وللسَّائق الأهتم، وللبستاني الرِّيفي، قبل أن يقتادوهم، مخفورين، بعد أن وضعوا الجُّثة والرَّأس على نقَّالة طبِّيَّة غطوها بمفرش أبيض، وأودعوها جوف عربة إسعاف استطاعت، بالكاد، رغم دويِّ بوقها، أن تشقَّ طريقها صوب مشرحة المستشفى العسكريِّ وسط الجُّموع التي تقاطرت من كلِّ فجٍّ لترابض أمام القلعة، تحت وابل المطر الهطال، بعد أن منعوها من الدخول!

منذ ذلك اليوم، وعلى مدى أشهر طوال، لم يعد لفريتاون من موضوع لأسمارها غير سيرة مارغاي ومقتله العجيب. الكلُّ ينسج ما يعنُّ له من تفاصيل، ثم ما يلبث أن يكون هو نفسه أوَّل من يصدِّقها، فينطلق يرويها من بيت إلى بيت، ومن شارع إلى شارع، ومن بار إلى بار! هكذا أطلقت المدينة أعِنَّة الأخيلة الخصيبة تنافس بعضها في اختراع التصوُّرات الطازجة، غير المسبوقة، لما يمكن أن يسبر غور السِّرِّ المكنون في حياة مارغاي وموته! كان يكفي أن يتنحنح أحدهم وينطق عبارة “هل سمعتم آخر الأخبار؟!” حتى يصبح قبلة الحاضرين، ليبدأ الحكي الذي لا أوَّل له ولا آخر!

مع ذلك، وكالعادة، باخت، في النهاية، سائر الحكايات، وكسدت جميع الرِّوايات، وفتر الحماس الشَّعبي للحادثة، وراح يذوي حدَّ التلاشي، فكلُّ ما يمكن أن يُقال قيل، وكلُّ ما يمكن تصوُّره لاكته الألسن؛ وحيث لم يسفر التحقيق المبدئي المطوَّل عن شئ، دُفن البلاغ في الأضابير الرسميَّة ضدَّ مجهول، وأطلق سراح المرأة والرَّجلين، فخرجوا يدوخون الدُّوخات السَّبع في مكاتب العمل ومحاكمه للحصول على فوائد ما بعد خدمتهم الطويلة من الحكومة التي استولت على ثروة القتيل الذي لم تثبت له قرابات على كثرة المدَّعين!

……………………….
……………………….
وضعت الدَّفتر في جيب ظهر المقعد القائم أمامي، واستغرقتني، بفعل إرهاق الأيَّام الماضية، غفوة طويلة تخللتها بعض المرائي المشوَّشة لحفل عرس بحي الضُّباط بأم درمان يغنِّي فيه روبرت مورغان، ويعزف خلفه أسعد مرجان، ويقود حلبة رقصه برنس مارغاي!

(6)

استيقظت، بغتة، على أنوار الطائرة الخافتة تسطع، وحركة الأقدام في الممرَّات تهدأ، والمضيفات يأمرن باستعدال المقاعد المائلة إلى الخلف، ويرفعن السُّتُر المُسدلة على النَّوافذ البيضاويَّة، وصوت إحداهنَّ تعلن من السمَّاعات المشروخة أن الطائرة على وشك الهبوط، وتطلب من الجميع التزام المقاعد وربط الأحزمة.

دعكت عينيَّ بكفيَّ مليَّاً، ومضيت أحدِّق من النافذة؛ فبدت لي الخرطوم بدويَّة حسناء تستحم تحت رذاذ صباح خريفي غائم.

في الصَّالة استقبلني بعض أهلي وأصدقائي، وفي مقدِّمتهم أبي، عليه رحمة اللـه، بملابسه الرَّسميَّة، فقد كان، وقتها، ما يزال ضابطاً بالسِّلاح الطبِّي. انخرطنا أجمعين في عناق طويل أسلنا خلاله دمعاً غزيراً على أكتاف وصدور بعضنا البعض. أحسست بأن ما ذرفت عيناي كان بعضه للفرح وبعضه للشَّجن، بينما خيِّل إليَّ أن كلَّ ما ذرفت أعينهم كان لفرحة التلاقي بعد طول التَّنائي.

غير أن الصَّاعقة القاصمة ما لبثت أن هوت على أمِّ رأسي حين اقتربنا من موقف السَّيارات في باحة المطار!

انتحى بي أبي جانباً ليقول لي بصوت متحشرج يحاول، بنحنحات قصار متلاحقات، أن يجعله أكثر تماسكاً:

ـ “شوف يا كمال يا ابني .. إنت طبعاً عارف انُّو الموت حق علينا كلنا، والخبر العايز أبلغك بيهو ده أنا حزين ليهو جداً، ومع كده حبيت إنك تعرفو من هنا عشان ما تتفاجأ لما نصل الحلة، لأنو الدُّنيا هناك مقلوبة، و .. “!

صحت جزعاً:

ـ “أمِّي .. يا بوي”؟!

قال، وهـو يزدرد ريقـه، ويتحاشى أن تلتقي أعيننا:

ـ “لا .. لا، أمك الله يديها طول العُمُر .. لكين صاحبك .. صاحبك أسعد .. اتلقى فجر الليلة مكتول، للأسف، تحت النِّيمة الكبيرة في بيتهم .. مضبوح من الأضان للأضان .. وراسو مفصول من باقي جسمو .. جبنا البوليس والإسعاف .. نقلناهو عندنا في مشرحة المستشفى العسكري، ودلوقت خليناهم بيكمِّلوا في الإجراءات وجينا نقابلك ونرجع ندفن”!

أحسست برأسي يدور، وبحلقي يجفُّ، وبلساني يتخشَّب، وبالرؤية ترتجُّ في عيوني، وبالرَّعدة تسري في فرائصي، وبالعرق يتفصَّد من ظهري، وبالأرض تميد من تحتي، وبساقيَّ لا تقويان على حملي!

………………….

………………….
دفنَّاه، ثمَّ قفلنا راجعين ننصب سرادقاً أمام بيتهم، ونقيم مأتماً من ثلاث ليال نعزي فيه بعضنا البعض، ونذرف الدَّمع السَّخين مرَّتين: مرَّة على شبابه الغضِّ، وذكائه الوقَّاد، وحيويَّته الدَّفَّاقة، وكلِّ ما ظللنا نتوهَّم أن مستقبلاً وضيئاً يبشِّر به، ومرَّة على ذهابه المأساوي هكذا، بلا ولد، ولا أسرة، ولا مجرَّد أقارب بعيدين! حتى آدم اب اضان الذي كان أوَّل من عثر عليه، حين هبَّ من نومه مع أذان الصُّبح، غارقاً في الوحل تحت النِّيمة الكبيرة، مقطوع الرَّأس، مضرَّجاً بدمائه، فأطلق أوَّل صيحة ذعر في تاريخ حيِّنا الآمن، وركض بأرجل الرُّعب يستغيث من باب لباب؛ هذا الوفي المخلص الأمين الذي خدم هذا البيت قرابة ربع قرن، وحمل مورغان طفلاً في مهده، ولملمه من الطرقات  ذاهلاً في أخريات أيَّامه، آدم ذاك كان أوَّل متهم في نظر الشُّرطة التي طعنته عميقاً في قلب فجيعته الإنسانيَّة النبيلة حين انتزعته بلا رأفة من وسط مهرجان ذلك الحزن العام، وقيَّدته بالسَّلاسل الغلاظ، لتقذف به، دون رأفة، على ظهر شاحنتها الشَّائخة، حتف أنف صرخات الاحتجاج التي أطلقها الجِّيران، رجالاً ونساءً وأطفالاً، ليضحى الفقد فقدين!

………………….

………………….
قُبيل صلاة مغرب اليوم الثَّالث كفكفنا سرادق مورغان من الشَّارع، لننصبه، مرَّة وللأبد، في أعماق قلوبنا. مع ذلك أفقنا على أن الحيَّ أولى من الميِّت، فانقلبنا نولي اهتمامنا لآدم اب اضان، نزوره في حراسة القسم الجَّنوبي بانتظام، نحمل له المأكل والمشرب والملبس وأدوية مرض السُّكَّر الذي أصابه على كِبَر. وتولى قضيَّته، تطوُّعاً، أحد أشهر محاميِّي المدينة الأشدَّاء، فخاض، لأشهر طوال، معركة قانونيَّة شرسة تكللت بنصر مؤزَّر يوم انتزع القَّرار النهائي بإخلاء سبيله لعدم كفاية الأدلة! فأقله من القسم بعربته الخاصَّة، ليطوف به أزقَّة الحيِّ، وسط زغاريد النِّساء، وهتاف الصِّبية الدَّاوي على إيقاع بوق السَّيارة: يحيا العدل!

وكنت، بعد زهاء الأسبوعين من وصولي، قد تبيَّنت أن خسارتي الشَّخصيَّة كانت، فضلاً عن فقد أسعد مورغان، كبيرة بحق. فقد أضعت، وسط كرنفال النُّواح الذي أقمناه بالمطار، يومذاك، بعض حقائبي ومتعلقاتي. لكنني لم أحزن عليها، بعد أن تأكدت من وجود الشِّهادات وألبوم الصُّور التِّذكاريَّة، قدر حزني على دفتر روبرت مورغان بغلافه البُنِّي، بما فيه عنوانه البريدي؛ فقد اكتشفت أنني نسيته في جيب ظهر مقعد الطائرة ذاك! وكم كنت أتحرَّق للكتابة إليه، وسؤاله، بالأخص، عن سرِّ كلِّ تلك الموافقات “الصُّدفيَّة!” التي نبَّهتني إليها، بقوَّة أشدِّ من أيِّ شئ آخر، فاجعة مقتل أسعد مورغان بأم درمان، بعد أيَّام قلائل من اختياره هو، روبرت مورغان، بكييف، لفاجعة مقتل برنس مارغاي بفريتاون .. حدَّ التَّطابق!

طرقنا أبواب شركة الإيروفلوت، وإدارة المطار، ورئاسة الطيران المدني، لكن بلا جدوى، إذ كانوا يرفعون أكتافهم، حيثما يمَّمنا وجوهنا، ويمطون شفاههم، ويقولون إننا تأخرنا كثيراً في التَّبليغ!

(7)

كانت قد مضت على تلك الأحداث قرابة الخمسة عشر عاماً حين تلقَّيت، كأمين عامٍّ لاتحاد الكُتَّاب السُّودانيين، دعوة للمشاركة في ندوة حول “الواقعيَّة الاشتراكيَّة” بفندق ماريوت بالقاهرة، بمناسبة إعادة إحياء رابطة كُتَّاب آسيا وأفريقيا.

وصلتُ العاصمة المصريَّة صباح اليوم السَّابق على النَّدوة، وتوجَّهت إلى الفندق. وعند الظهر تناولت غداءً خفيفاً، ثمَّ قصدت مكتب السِّكرتاريَّة بالطابق الأرضي لأطلع على قائمة المشاركين علَّ بعض الأصدقاء يكونون بينهم. رحَّبت بي الموظفة في لطف، وسلمتني إضبارة أنيقة بأوراق النَّدوة، وفيها القائمة المطلوبة. شكرتها وصعدت إلى غرفتي بالطابق الخامس لأراجعها على مهلي.

كانت القائمة مُرتَّبة بالأبجديَّة الإنجليزيَّة. وبعد أن تأكدت من ورود بعض الأسماء، كدت أغلق الإضبارة. لكنني قفزت كالملدوغ، فجأة، وكدت أطير من الفرح، حين لمحت، في اللحظة الأخيرة، تحت الحرف (إس)، اسم دولة سيراليون، واسم المشارك الثالث منها .. ديفيد روبرت مورغان ـ شاعر!

قدَّرت أنهم ربَّما خلطوا في مجاله الإبداعي. لم أنتظر المصعد، بل أسرعت أركض على الدَّرج هبوطاً، مرَّة أخرى، إلى مكتب السِّكرتاريَّة، لكنني وجدته، هذه المرَّة، مغلقاً، فركضت إلى الاستقبال الذي حاول الاتصال هاتفياً بغرفته رقم 512 في نفس طابقي الخامس، بل إلى الجوار، مباشرة، وبمحض المصادفة، من غرفتي رقم 511، لكن بلا طائل، إذ لم يكن مورغان بالغرفة. فعدت أركض بين قاعة الطعام، والمقهى، والمقصف، والمصرف، وحوض السِّباحة، ومحلات الملبوسات، والنظارات، والسَّاعات، والجَّواهر، والأناتيك، والصَّيدليَّة، ولعب الأطفال، أتفحَّص الوجوه الأفريقيَّة، الواقف منها والعابر، حتى اجتزت بوَّابة الزُّجاج الدَّائريَّة إلى الشَّارع، أطوف بدكاكين الجِّوار، وأكشاك الصُّحف والسِّجاير، وأعدو على التلتوارات، ومماشي الحدائق، لكن .. بلا جدوى!

أخيراً عدت إلى الفندق، منهكاً، وطلبت من موظف الاستقبال أن يبعث بمن يترك له مذكرة تحت بابه، ثمَّ صعدت إلى غرفتي أحاول الاتصال به هاتفياً، كلَّ دقيقتين، عساه يكون عاد. وعندما لا أجده أترك له، المرَّة تلو المرَّة، رسالة صوتيَّة ليتصل بي عندما يعود من أيِّ جحيم يكون ذهب إليه. لكنه لم يعُد، حتى انتصف الليل، وبلغ بي الإرهاق مبلغاً أسلمني إلى نوم مشوَّش متقطع بلا عشاء.

نهضتُّ في الصَّباح الباكر، وليس في ذهني سوى .. مورغان، فقفزت إلى التَّلفون. رنَّ الجَّرس ثلاثاً. رُفعت السَّماعة من الطرف الآخر. انخلع قلبي. لكنها سرعان ما أعيدت إلى موضعها! عاودت الاتِّصال في التَّو. رُفعت السَّمَّاعة. لكن، ما أن بدأت أصرخ بالانجليزيَّة: “ألو .. ألو، يا مورغان، لا تغلق الخط، هذا أنا كمال”، حتى كانت السَّمَّاعة قد أعيدت إلى موضعها في برود! عاودت الاتِّصال، للمرَّة الثالثة، في لمح البصر، غير أن أعصابي انسحقت تماماً عندما وجدت السَّمَّاعة معلقة! لم أضيِّع ثانية. انحشرت في بنطالي بسرعة البرق. فتحتُ باب غرفتي ومرقت كالسَّهم صوب باب غرفته المجاورة. طرقته بعنف، ثمَّ بعنف أكثر، ثمَّ بعنف أشد. لم يثنني عن ذلك انفتاح جلِّ أبواب الطابق، وخروج النَّاس، منزعجين، بملابس النَّوم! خواجات وخليجيون وآسيويون يحدِّقون فيَّ بعشرات العيون الرِّجاليَّة والنِّسائيَّة المستهجنة! لكن ذلك ما زادني إلا عناداً، فلم أتوقَّف، قط، عن رفع وتيرة الطرق، وتصعيد عنفه، حتى دميت كفي، وكاد الباب ينخلع، بل زدت عليه أن بدأت أصرخ، بالانجليزيَّة، بأعلى صوتي:

ـ “مووورغاااان .. افتح الباب .. مووورغاااان .. أرجوووك أنا كماااال، مووو ..”!

لحظتها، فقط، انفتح الباب، بغتة، فإذا صديقي القديم يطلُّ، بذاته وصفاته، محمرَّ العينين، مقطب الجَّبين، متورِّم الأنف، منتفخ الأوداج! لم تتغيَّر ملامحه عدا بعض شيب على الفودين، وشئ من تجاعيد على الجَّبين، ونظارة طـبيَّة يحـاول، عبثاً، تثبيتها على عينيه بأصابع مرتبكة!

وقفنا قبالة بعضنا البعض لا تفصل بيننا سوى بضعة سنتمترات. لكنه، لدهشتي، لم يرحِّب بي، لم يأخذني بالأحضان، لم يدعُني للدخول، بل حتى لم تتهلل أساريره، أو يفترَّ ثغره ولو عن طيف ابتسامة! لم تكن وقفتنا تلك، في ساعتنا تلك، وقفة صديقين حميمين افترقا لأكثر من خمسة عشر سنة، إنما وقفة غريمين متحفِّزين للاشتباك في عراك يأخذ كلٌّ منهما فيه ثأراً ما من الآخر! وفاقم من دراماتيكيَّة المشهد أن من وقفوا أمام أبوابهم، في البداية، بدافع الاستهجان، واصلوا وقوفهم بدافع الفضول! وأن من كاد بابه يتحطم قبل لحظات، يكتفي، الآن، بالتَّحفُّز الصَّامت، أمام من كاد يحطمه! لقد استحال الطابق كله، خلال تلك اللحظات القصار، إلى ما يشبه متحف مدام توسو!

أخيراً، وبعد مضي زمن خلته دهراً، قرَّر صديقي القديم أن يغيِّر، في ما يبدو، من أسلوبه، فقد انطرحت أساريره، فجأة، وراح يخاطبني، بالانجليزيَّة، بهدوء، وبأدب جم، وبذات صوته العميق الأجش الخارج من تجويف فونوغراف:

ـ “نعم سيِّدي .. كيف أستطيع مساعدتك”؟!

صار الأمر غامضاً! تمالكت نفسي، وهتفت كمن يوقظ، من على البعد، نائماً:

ـ “مورغان .. روبرت ديفيد مورغان”!

هزَّ رأسه متعجِّباً. ازداد الأمر غموضاً. صحت، هذه المرَّة، بالرُّوسيَّة، عامداً، والحيرة تلوِّن نبرات صوتي:

ـ “أنظر .. قد أكون كبرت شيئاً .. قد يكون شكلي تغيَّر نوعاً ما .. لكن لا أظنُّ إلى الحـدِّ الذي لا تستطيع معه التعرُّف على صديقك القديم كمال .. كمال الجزولي من السُّودان”!

رفع كتفيه، وقال، بالانجليزيَّة، ببرود، وهو يضع كلتا يديه في جيبي قميص بيجامته:

ـ “معذرة .. أنا لا أفهم لغتك، فأرجو أن تكلمني بالانجليزيَّة”!

لم يكن ثمَّة مناص من أن أتمالك أعصابي، وأعود لمخاطبته بالانجليزيَّة، فأخذت نفساً عميقاً، وقلت له وأنا أتصنع الهدوء:

ـ “طيِّب .. ألست أنت روبرت ديفيد مورغان .. القاص من سيراليون”؟!

ـ “نعم أنا روبرت ديفيد مورغان، ومن سيراليون، لكنني لست قاصَّاً .. أنا شاعر”!

لم أعِر استدراكه اهتماماً، فواصلت:

ـ “ألم يكن أبوك ضابطاً بالجيش والتحق، بعد التقاعد، إدارياً بشركة تجاريَّة في فريتاون”؟!

ـ “حتى وفاته .. نعم”!

ـ “أليست أمُّك معاونة في جمعيَّة نسائيَّة لنشر الوعي بمضار تناول الحوامل لطين وسو”؟!

أجاب، وهو يجعِّد جبينه، ويضيِّق ما بين حاجبيه، كمن يستغرب، فعلاً، معرفتي بكلٍّ تلك التفاصيل:

ـ “قبل وفاتها بفترة .. نعم”!

ـ “وإذن، ألا تذكر أنك كنت تؤلف قصصاً بديعة، تنسخها بخط جميل، وعناوين ملوَّنات، في دفتر بُنيَّ الغلاف”؟!

ـ “سيِّدي .. قلت لك أنا شاعر ولم أكتب قصَّة في حياتي”!

وجدتني أتحوَّل، مجدَّداً، لمخاطبته بالرُّوسيَّة:

ـ “ألا تذكر مارغاي، والقلعة، والطبَّاخة العجوز، والسَّائق الأهتم، والبستاني الرِّيفي”؟!

رنا إليَّ كالمتشكِّك في قواي العقليَّة، وقال بالانجليزيَّة:

ـ “عفواً، سيِّدي، لكنني، في الحقيقة، لا أفهم عمَّ تتحدَّث”!

اضطررت إلى العودة لمخاطبته بالانجليزيَّة:

ـ “حسناً .. ألا تذكرني؟! لقد تصادقنا طوال دراستنا للقانون الدَّولي بجامعة كييف”!

ـ “كان ذلك سيشرفني حقاً، يا سيدي، لكن يؤسفني أن أقول لك إنك مخطئ تماماً، لأنني لم أزر هذه الكييف في حياتي، ولم أدرس لا القانون الدَّولي ولا القانون أصلاً. أنا اختصاصي في علم النَّفس، درسته بجامعة لندن”!

أحسست برأسي يدور، وبحلقي يجفُّ، وبلساني يتخشَّب، وبالرؤية ترتجُّ في عيوني، وبالرعدة تسري في فرائصي، وبالعرق يتفصَّد من ظهري، وبالأرض تميد من تحتي، وبساقيَّ لا تقويان على حملي!

………………….

………………….
المفاجأة الأضخم كانت بانتظاري لدى عودتي من القاهرة! فقد هُرعت، فور وصولي، إلى الألبوم الذي يضمُّ بين أوراق سوليفانه مجموعة صورنا التذكاريَّة بكييف. لكنني، لدهشتي، وعلى قدر ما بحثت ودققَّت النظر، لم أقع، هذه المرَّة، للغرابة، ولو على شبيه .. مجرَّد شبيه بصديقي مورغان .. روبرت ديفيد مورغان .. القاص من سيراليون!

                                                                      (انتهت)

                                                         الخميس، 30 أبريل 2009

كمال الجزولي

شاعر وأديب سوداني.
زر الذهاب إلى الأعلى