ثمار

على ذمة الإنتظار

سماح العيسى

صوت المنبه يباغت صمت الخلايا في جسدي قبل أن يعبث بسكون المكان من حولي، لم أشعر بمرور الوقت وأنا أجلس على ذات الكرسي في ذات الزاوية منذ ساعات طويلةلم أنهض فيها إلا مرات حينما غلبني الغثيان فلهثت إلى الحمام أتقيأ ألمي المجتمع في حلقي، الشمس بدأت تتحرش بنافذتي و أجفاني تجابه شعاعها بنصف إغماضهو لازلت أقهر النعاس بكوب قهوة مركز أفرغه في حلقي ليصطف فارغاً إلى جوار الأكواب الستة التي أمطرت فيها جوفي طيلة الليل  لم أغف حتى لأجزاء من الثانية ولن .

أقسمت قبل أن أبدأ هذه الليلة الطويلة أني لن أنم إلا بعد أن أتم مهمة أجلتها كثيرا في بداية الليل و ما إن أرخت العتمة ضفائرها على كتف السماء كنت قد نحرت خوفي على عتبة الجنون و دفنت جبني تحت نعال الوجع ، قررت أن أذهب بهذا الوجع حتى آخره .. أن أكتفي بألم صاعق ينزل بروحي مرة واحدة كضربة حسام لا تخطيء .

فقد اكتفيت من احتضاري الطويل الذي مزقني إلى ألف روح لا تعرف الموت و لا تفقه الحياة   جلست قبالة الكمبيوتر صورتك على الطاولة  في مكانها تماماً لم تنحرف من مكانها هذا منذ عامين حتى أنني استنسخت أخرى ﻷ ضمها إلي حينما ترديني أزمة شوق و يستفحل بي الحنين .

كان صوتك يمر دهاليز روحي في لحظة ذكرى ، فأشعر أني أكثر خوفاً من أن أقدم على هذه الخطوة و يعود تعبي ليصفع وجه التردد، قد تكون شدة ضعفنا أحياناً هي ذاتها نقطة قوتنا و جرأتناو قد كان ضعفي و إرهاقي وتعبي كلها جيوش تجرني إلى أرض معركة أراني خاسرة فيها أياً كانت النتائج ، لكنها معركة حاسمة أجلتها آلاف المرات و تخاذلت عن خوضها كثيراً.

وأخيراً دخلت ميدانها بلا رمح و لا سيف ولا حتى رصاصة أطلقها في وجه عدونا المشترككنت هنا على هذا الكرسي  بظهر أحناه غيابك و روح تكاد تبلى و عينين ترقبان الوجوه بأسى ، أكاد أركض فوق الصور بسرعة هاربة من قبح المشهد، لكنني بررت لنفسي تقبل هذه المشاهد و فرضت على روحي الرضا بكل هذا التعب لأذوق جزءاً ضئيلاً من طوفان المرار الذي ابتلعك و لأن غايتي بررت وسيلتي  كان لابد لي أن أتقبل الدماء التي رشقت بقعاً على شاشة الكمبيوتر في البدء و من ثم بدأت تسيل لتستقر بركاً عميقة في عيني.

أقلب الصور ، ألمح وجهاً يشبهك  أكبر الصورة  أدقق في ملامحه المتبقية بعد أن فقأوا عينيه  يغلبني الغثيان و تغرقني الدموع  فتغيب الرؤية و أكاد أنهار، أصفعني لأصحو .. أغالب وجعي و أعض على الجرح بقسوة أفرك عيني بأصابع متعرقةكل مساماتي تنتحب معي و روحي منقسمة على نفسها، فأراني أنا القوية و أنا الضعيفة،أنا الخائفة و أنا الجسورة، كان لا بد أن أحسم المعركة منذ سربت هذه الصور لضحايا معتقلات “الوطن” .. و أنا في دوامة أنهكت قواي  و كان لابد أن أنهي هذه المعاناة إذا ما كان هناك سبيل لإنهائها.

عامان مرا و أنت تعانق الغياب و ينهش العتم المسدل بيننا ملامحك،عامان و خاتم العشق لازال مدسوس في بنصري و يمناي تقسم ألف يمين ألا يفارق مسامها .أصحو و في صدري أسراب أشواق و فيض أمل و يبدأ النهار يأكلني من روحي  كلما شارف على الرحيل لتتكاثر أيام غيابك و بعضي ينقص من بعضي حتى كدت أتلاشى ، ما إن يدنو الليل حتى تفترسني كل وحوش القهر و تتركني للفجر جثة دامية، لكن هذا الفجر الذي يطل اليوم أراه فجراً غريباً،وأنا لازلت أقلب وجوه الموتى ، تتقاتل في جوفي أمنيتان و يدميني تشتتي ما بين نقيضين ، شيء ما بي يريد أن يجدك هنا بين الجثامين المرقمةفتنتهي عدة الحزن التي أنهكت روحي و أملك يقيناً واحداً و إن كان موجعاً لكنه ينهي عامين من وخز الهواجس و النوم على نصل الكوابيس.

بينما شيء آخر أكبر و أصدق و أوفى يركض بي فوق الوجوه مثل كفيف خشية أن تكون هنا و أجدك فأجهض جنين الأمل الذي بذره غيابك في روحي و أشيع انتظاري لقبر بلا شاهدة. بضع صور أخيرة  و تنتهي رحلة العناء الطويلة  أتراها صورتك تكون الأخيرة !! خوف يصفع طرف ابتسامة ميتة كادت تتسلل إلى ثغري كلما قاربت من النهايةيمر وجه أحدهم نحيلاً ضئيلاً  متلاشي التعابير بملامح ذابلة تماماً ، أمد أناملي بغير وعي أمسح جبينه الذي ارتسمت فوقه الأرقام رقم تسلسلي للموت !!! كم هم دقيقون في حساباتهم ، سجلاتهم تتكاثر و أحباؤنا أرقامأحاول أن أمحي الأرقام عن جبهته عله ينهض من جديد و ينساه الموت بضع عمر.
تضحك الشاشة من خيبتي  وأصحو من ذهولي ، لانتقل إلى الرقم التالي ، و ميت آخر بحكاية أخرى طواها في جوف قلبه و التف على وجعه ليموت بهدوء و يختم أحدهم على جبهته رقما جديداً.

الصورة الأخيرة  تأملتها طويلا و الذهول يغزوني ،  ثم يتلوه وابل من الدمع و الضحكاتأغلق الكمبيوتر ، أرمي ببصري إلى عينيك في البرواز ، أضحك ، أقهقهأتحسس الخاتم في يمناي، لازلت قادرا على احتمال المزيد من الألم لتمنحني سماءاً من الأمل . لم تمت لأن في حياتي عمر لازال ينتظرك، أنهض عن كرسيي ، أعانق انتظاري الذي أنهكه قلق الأمس أحضنه حتى يرتدي روحي من جديدوأكتم صوتا في داخلي يهمس بخبث

(ربما نسي أحدهم أن يلتقط صورة لك .. بعدما حفروا أرقامهم على جبهتك)!!

* كاتبة وشاعرة من سوريا

زر الذهاب إلى الأعلى