فصول من مملكة الشر
“فصل آرثر رامبو”
إلى “د. عيد صالح” و “النور أحمد علي”.
……………………………….
من أين سأبدأ سيرتكَ ؟
من “شارلفيل” ، تلك الشبيهةُ بمارستان قروي وقد صارت بعدك مرقداً مقدساً للأنبياء المغدورين ، من احتفال المدفعية تبتهجُ في غيابِ الوالد ، أم من عجرفةِ القذيفة في مرآة الوالدة …
سأبدأُ:
من مارسليا تتوضحُ في العُواءِ ، من البترِ يزهرُ في جسدِ العالمِ، من ارتعاشة عظم وارتخاءِ عروق ، من شمسٍ تتأوه في الظلِّ ، من ليل يرعى حزن نهار ،من ساعاتٍ تربي الفجيعة ،من ذاكرةٍ مثقوبةٍ بالرعب ، من خيباتٍ تتناسلُ في قدمِ الهزائم ، من اختناقٍ يتنفَّسُ هواء الفضيحةِ ، من وجهٍ يلبسُ جلدَ الوحشِ
سأبدأ،
من الساقِ مقطوعةً ،
من شجرة
من الجسدِ يتصلَّبُ
في شفرةِ القطعِ
سأبدأُ ،
من هذا العُواءِ الثقيل
……………………..
من تلك الأرض الغرائبية ، حيث تمتزجُ بلادةُ القرية الكبيرة بكسلِ نهر “الموز”
حيثُ تختلطُ قساوةُ البلادِ بملامحِ الأم
ويكونَ الأبُ ؛ مجرَّدَ مدفعٍ يقصفُ سماءَ الحلم
أنزوي لضجري
وأفتتحَ للجنونِ ، صياغة القتلِ
وطقسَ الهالكين
…………………..
“لامعة”
في عيدِ الميلادِ القادم
من سيشعلُ نجمةً في شجرةِ اليتيم
من ذا يهديهِ عودَ الثِّقابِ
لتشتعلَ جثتي
في صقيعِ الأقاليم
…………………
“بارقة”
يحلو لي في الحروب ،
وأنا أعيشها
أو أقرأها في صفحاتِ التاريخ
أو أشاهدها على قنوات التلفزيون
أن أستلقي على ظهري ،
مشاهداً حرائقها
ترحلُ ،
في دُخانِ سيجارتي
………………..
في المركبِ السكران ، سكرتُ
وحلمتُ بالمحيطاتِ تأخذَ هذا الوهجَ ، إلى أزرقَ يمتدُّ
كأعناقِ الزرافاتِ في “هراري”
حلمتُ بالطَّحالبِ تنمو في خشبٍ ، يشبهُ أخضرَ القلبِ
وسكبتُ دمي خمرةً ، ليسكرَ البحرُ
وتثملَ الأقراشُ في حفلِ افتراسها
ها الماءُ يميلُ ، فيرتبكُ الذراعُ
يسقطُ المجذافُ
وتضيعُ في طفوِ الأحزانِ الملوَّنةِ ، بوصلةُ الطريق
ها الموجُ كسوطٍ من الملحِ ،
يجلِدُ
والطيرُ العظيمُ في جراحِ الرأسِ
ينامُ ،
كشمسٍ دائخة
ها هو المركبُ ، يغوصُ في غنائهِ
ولا دلفينَ ينتفضُ كالنَّهدِ
من خلفِ “سُوتيانِ” البحرِ
لا دلفينَ يبرقُ ، كرأسِ الرُّمحِ
ويفتدي غرقي
في التيّارِ أضعُ الذاكرة ، وأنزوي لخيطٍ مشدودٍ بالصَّاعقة
وأراقبُ شمسي ولهانةً في الرَّميم
قلتُ : أمارسُ الصيدَ
لأنجو،
فاصطادتني التي بيديها المفاتيحُ
قلتُ : أتعلمُ الغطسَ
لأغوص ،
فتلقَّفتني التي بعينيها
لعنةُ العمقِ
ومفازاتُ الغريق
قلتُ : سمكةٌ زرقاءُ هذا البحرُ
وما كنتُ أدري ،
أنِّي الطُّعمُ!
………………………
حاولتُ أن أحصي عدد الشعراءِ
في أصابع اليد
على طريقةِ أفضلِ خمسةِ ممثلين
وخمسة مقاتلين
وخمسة لاعبي كرة قدمٍ
وخمسةِ أكثر الشخصيات تأثيرا في العالم
وخمسةِ أكثر الشخصيات اللامعة في التاريخ
فسقطت أصابعي الخمسُ محترقةً
كعدوكَ السريعِ في الريحِ
كالنجماتِ الخمسِ
وهي تسقطُ من فُندقِ الضاحية!
…………………………
ماذا فعلتَ بي يا “ازمبارد”
أهديتني مكتبةً أم محرقةً
يا رفيق
ها أنا أشمُّ رائحةً النيرانِ
أرى اللَّهبَ المقدَّسَ يسمو في الأظافرِ ،
كقصبٍ حاد
وأسمعُ النهرَ،
لسانً من الحبرِ يحترقُ
قل لي يا رفيق
ماذا أفعلُ الآنً ،
وأنا أرى الطريقَ
غيرَ الطريقِ
الرفيقَ
غير الرَّفيقِ
و العالمَ مشبوبا
بالحريق ؟!
…………………….
مثلَ قبيلةٍ زنجيةٍ
أقرعُ الطُّبُول ؛
احتفالاً بالهزيمة و النَّصر
احتفالاً بالعطشِ و المطرِ
احتفالاً بالماءِ و الدماءِ
احتفالاً بالنَّارِ و الجوع
مثل قبيلةٍ زنجيةٍ
ألَّفتُ أغاني ، على جِلدِ وحوشٍ
ورقصتُ كالغولِ ، في غابةٍ مليطةٍ ،
من الأشجار
وانخفضتُ كسماءِ كاهنٍ ،
في لوحِ الطَّلاسم
وقلتُ :
لغتي ؛ لعنتي و قداستي
مثلَ قبيلةٍ زنجيةِ
انخرطتُ في الرَّقصِ مسعوراً
تاركاً البكاءَ ، يحرثُ البلادَ
في حقلٍ
من بنادقَ و مُلوكٍ !
……………………….
“بارقة”
على عضلةِ العالمِ الصَّلبة
وشمتُ اسمي ،
كعضَّةِ كلبٍ مسعور
………………
“لامعة”
انطفأتُ كشجرةِ عيدِ الميلاد
وما زالت عيناي
تلتمعانِ ،
كالذئبِ
في ليلِ الخليقة
…………….
لي أن أشتهي الأرضَ ؛ فتاةً زنجيةً تحضنني ، تمنحني الطعامَ و السجائرَ و الحبَّ العابرَ ، تمنحني الذهبَ الذائبَ في نخاعِ العظمِ ، الذَّهبَ الذاهبَ في ساقٍ مبتورةٍ نحو الجحيم
قلتُ الجحيم ؛ فصلٌ في كتابٍ
وها أنذا ، أحرقتُ الكتابَ ، فصَّلتُ الجحيمَ على قدرِ أيامي من “دم فاسد” يضجرُ في الأوردةِ في السيقانِ مطلوقةً لريحٍ ، في الشرِّ الذي اجتباني ، في الشرِّ يعدو كقافلةٍ من البنادق ، في الشرِّ يتلوهُ قديسون قدامى ، في الشرِّ ينمو من جرحٍ أزرقَ لعينينِ في طراوةِ المراهقة ، في الشرِّ ينشدُ الخلاص .
سأعتادُ مرة أخرى على “ليلِ الجحيم” ، لن أشربَ كأسَ سمٍّ مجازيةٍ كالتي شربها سقراط ، تكفي هذه الكأسُ من آبارِ “عدن” ، يكفي هذا المحيطُ محمَّلا بقوافلِ عبيدٍ ، يكفي هذا العطشُ يتضرَّعُ لآلهةٍ من ملح ، تكفي هذه الصخورُ تحرسها نُطفةٌ ، تكفي هذه الأبديةُ تلتحفُ فوهةَ بركانٍ.
سأهذي مرة أخرى ، ك”العذراء الحمقاء و الزوج الجهنمي” ، ولن أطلبَ المغفرة .
سأجوعُ حتما ، طالما اشتهتني أرصفةٌ ضائعة ، طالما اشتهتني نيران جائعة ، طالما اصطفاني العواءُ البشري.
في الملامحِ تهفو شمسٌ حارقةٌ ، في الحنجرةِ يصدحُ صقرٌ و تتمجَّدُ كائناتٌ في دمِ الصَّحارى .
صحراءُ هذا الحبُّ ، صحراءُ هذه البلادُ ،
وصحراءُ هذه الفتنةُ تزيِّنُ لي الشِعرَ صعلوكا ، والقصيدةُ سماءَ قاطعِ طريق
إني أقطعُ الطريقَ لأصلَ ،
قدماي شمعتان ، وفي مهبِّ النجمةِ التي تقدحُ ينمو قطيعٌ من الليل .
رطبا يخفقُ الليلُ ، والقمرُ هلالٌ يحصدُ جثَّةَ الحُلم
وجارحٌ هو الفجرُ يطعنُ الجنبَ بنسمةٍ مباغتةٍ قيدَ صباحٍ يتمدَّدُ في بساطِ الذي لم ينمْ
ورهيبٌ هذا الضوءُ يشقُّ رخاوة النَّدمْ
وواضحٌ هذا الجنونُ ،
يستثيرُ شهيَّةَ العدمْ !
………………
هكذا ، توقَّفتُ
وكانتِ الكتابةُ بعدي
محضَ كتابة
فاكتب ،
مهما فاضَ دمكَ
مهما فاضَ جنونكَ
مهما تناسلت في عروقكَ
مياهُ الكآبة!
* كاتب من المغرب