الحُجُب الأرجوانية
أحفر في الهاجس،
تابع في الحفر،
حتى ينبجس اللُب من الجوهر،
فإما الجوهر، وإما فرج الفراغ.
(أنسي الحاج)
1
أحياناً يطغى الجدل النمّام هنا وهناك، جارحاً ومشكِّكاً في الشكل الشعري لقصيدة النثر وجدوى إبداعيتها، وذلك عوضاً عن أن يتوجه هذا الجدل بنميمته الجدباء إلى التحقّق الشافي من شعريتها التي تُعبّر عن شكلها المغاير والمختلف جمالياً ومعرفياً عن أشكال شعرية أخرى كانت سائدة من قبل، أو تُزامنُها في فرض حضورها وتجلياتها على الذائقة الشعرية العربية المعاصرة.
إنّ الامتثال لذائقة مُغلقة في تلقي الشعر لا يكمُن في بوار المكون المعرفي والجمالي للذات المتلقية فحسب، ولكنه يُجسِّد أيضاً عطالة الكائن الفرِحة بخوائه الوجودي المديد. عطالة من يأتي إلى الحياة من دُبرِها، من أسفل، لا من شاهقٍ أعلى، يرمي بشوف الطائر من شفق الإشراق الوامِض الجارح. كما أن رفض إي اجتراح إبداعي لشكل شعري جديد ومُبتكر، ما هو إلاّ تقويض لجوهر العلمية الإبداعية، لبداهة الخلق وأصالة النزوع الجانح الكاشف للحُجب، لميول الاكتشاف والارتياد. ففي الرفض تجسيدٌ لحالة انغلاق وانكفاء تُكابدها الذائقة الشعرية السائدة والمُكرِّسة. لأن الأمر لا يتعلق مطلقاً بأفضلية شكل شعري وتمايّزه عن أشكال شعرية أخرى، أو لأن الأشكال الشعرية الجديدة، التي أخذت تنبجس وتتوالد تلقائياً من الرحم الجنيني للقصيدة العربية الحديثة وومضاتها الكاشفة، أبرزها قصيدة النثر، تنزع إلى ترويج جماليات بعينها ترمي من خلالها إلى تجاوز وإلغاء الشعر المُقفى والموزون. وذلك لأننا في هدأة الليل وانبلاج الفجر، في لحظة الصفاء الروحي والتوحد الهادئ الرزين مع الذات والعالم، نلوذ ونبتهج فرحاً بأشعار المعري وأبو تمام ورباعيات الخيام وجلال الدين الرومي، وذلك دون أني يطغى هذا الابتهاج النشوان ويحجب شغفنا وغبطتنا أيضاً بقصائد أنسي الحاج ومحمود درويش ومحمد المهدي مجذوب وسليم بركات وعباس بيضون وأمجد ناصر ومحمد عبد الحي وبول شاؤول وصلاح ستيتية وحسن نجمي وأدونيس وبسام حجار والمهدي أخريف وديع سعادة ومالك حداد وعلاء خالد وغيرهم.
2
لم تعُد المسألة الشعرية تتعلق في جوهرها بكليشيهات تفرضها خطابات تتصارع فيما بينها أيديولوجياً، إذ ينزع كل خطاب إلى فرض رؤيته للعالم وللشعر ولعلاقتنا بالواقع، من شاكلة “الأصالة والمعاصرة” و”التراث والحداثة” و”الشعر المقفى الموزون والشعر الحر”، وغيرها من الثنائيات، كما كان سائداً في بواكير أزمنة الحداثة الشعرية العربية. إذ لا تعدو هذه الثنائيات عن كونها صيغ وصفية جاهزة تحجُب بنصف وعي جوهر التحولات المعرفية والجمالية التي صارت تكتنف روحية القصيدة الحديثة وانفتاحها اللا متناهي على مرجعيات وحساسيات وأشكال جديدة.
لم يعُد الشعر يخضع لأهواء الحاشد وسلطان الجموع. صار الشعر: انتخابا رؤيويا وخيارا جماليا تُمليهما فرادة التجربة الوجودية الحيّة للذات الشاعرة. إن الامتثال لذائقة شعرية صدئة يورثُ يُتماً حارقاً. إذ لا تقوى مثل هذه الذائقة، المُمسكة بتلابيب الانسجان في شكل شعري بعينه، حارسةُ موتها المجاني الأمين، عن التفتُح والنوسان بين أشكال شعرية مُغايرة ومُختلفة. لا تهتدي إلى التعاطي مع النصوص الشعرية مثلما تُحسن ملكات النحل امتصاص الرحيق المُزهر. لا تتوخى النبش والاكتناز من كل محمول شعري وجمالي ومبتكر وجديد. ففي التجديد والمغايرة والاختلاف إثراء وإخصاب لمجمل التراث الشعري العربي. ففي كل إبداع إحياء رؤيوي وارتياد كاشف للحجب والانغلاق. ويبقى الشعر رهن مناعته الذاتية ضد كل ما يتعارض مع جوهره الصافي وينزع إلى محق شكله العاري الزفزاف الذي يلاهي الذوبان في صعوده الراقص إلى الأعالي.
3
الآن وأبعد، أي بعد أن خَفَت احتدام الخطابات الدعائية الهادرة، التي كان ينحو بعضها إلى تمجيد الأشكال الشعرية السائدة، كالشعر العمودي وقصيدة التفعيلة، فيما يجنح بعضها الآخر إلى تبجيل الأشكال الشعرية الجديدة التي أخذت تنهل من جماليات قصيدة النثر وتجترح اشكالاً أخرى جنينية، صرنا أكثر ولعاً وافتتاناً بالإنصات الهادئ والرزين لأصوات شعرية كانت محجوبة من قبل. فنحن بدورنا كنا محجوبين بهذه الأصوات المُمَجدة والمُبجَلة، بوصفها المثال والنموذج الريادي للشعر العربي المعاصر. وعلى الرغم من أن هذه الأصوات المُكرَّسة رأت أن تجترح قصيدتها انطلاقاً من رؤيا الشاعر الممسوسة بروح عصره، وفرادة تجربته الذاتية، وتحولات الواقع التي تتفتّح فيها ذائقته وتُملي عليها ما يُغذي الأداء الشعري لقصيدته، إلا أنه لا يتم التعاطي مع فرادة هذه التجارب وتنوع خياراتها الجمالية على أنها ضرب من ضروب الارتياد لأفق من آفاق التجديد، وليس بوصفها سقفا أخيرا للإبداع الشعري، أو سماء تحجب ما يمتد إلى ما ورائها وما يترامى حولها. لقد حجبنا التصادي الرنان لهذه الأصوات المُكرَّسة من الاقتراب منها بصفاء، أو من ينابيع تجارب شعرية أخرى مغايرة إبداعياً ومتنوعة في خياراتها الجمالية، ومتزامنة مع نظيرتها في مرحلة الارتياد واجتراح التجديد، في الفترة من الخمسينيات إلى الستينيات، مرحلة التفتُّح الأكثر رحابة للحداثة الشعرية العربية، إلى فترة السبعينيات والثمانينيات، مرحلة التجذير والتنضيد الشافي للأشكال الشعرية الجنينية التي بدأت تبزُغ رويداً رويداً من رحم شعرية قصيدة النثر، وصولاً إلى فترة التسعينيات ومطالع الألفية الجديدة، مرحلة تقطير هذه الأشكال الجنينية على نحو يشي بالنضج والانفكاك من أسر المؤثرات الأولية.
وبالطبع لم يكُن هذا الحجب، الذي فرضه عراك السجالات على ذائقتنا الشعرية من الخارج، بفعل استراتيجية ذات قصدية واعية تهدف إلى الإعلاء من قيمة أصوات شعرية بعينها وفرض خياراتها الرؤيوية والجمالية كمعيار ونموذج للشعر الريادي، إي إسباغ مشروعية إبداعية على هذه التجارب والتعاطي معها بوصفها المثال للأداء الشعري، ومن ثم إقصاء أصوات شعرية أخرى لا تقل عن نظيرتها في فرادة الاجتراح والتجديد الشعري. لقد تولّد هذا الحجب في فضاء ثقافي عربي مُمزّق ومأزوم. فضاء مسموم بزخم التكريس الريادي الذي كانت تبثه وتفرضه خطابات تتصارع حول قضايا خاسرة، تعمل على ربط تمجيد التراث الشعري وتجديده بالعروبة والانتماء الثقافي والوحدة العربية، وذلك بتفخيخ التجارب الشعرية أيديولوجياً وزجِّها زجّاً في حَلبة العراك السجالي الدائرة بِرحاها خارج فضاءات الشعر الرحيبة.
4
ولعل أنسي الحاج، الشاعر اللبناني الراحل، الباذر الأبكر والأكثر رهافةً للشكل الجنيني لقصيدة النثر، وأول المُرهصين والمُمهدين لتفجير طاقات النثر الشعرية، على نحو غير مسبوق، من أكثر الأصوات الشعرية التي حُجبت بنصف قرنٍ كاملٍ من أوهام السجالات الزائفة والريادات التي لن يدوم لها البقاء طويلاً. لأن حداثة أنسي الحاج، التي اختُزلت في تجربته الشعرية فحسب، كانت مسكونة بإطلاق روح الفنان وتحرير طاقات الكائن الجمالية. فهي حداثة مُركبة ومتشعِّبة، أرادت أن تتغذى وتغذي الحياة بالجمال، وأن تُفرد الحياة بكل امتلاءاتها الطليقة في فضاء ثقافة عربية ظلّت في حالة خصام أبدي مع العيش بحرية وجمال.
ففي الشعر، أراد أنسي لقصيدته أن تنبجس مُمتلئة بجسد الحياة، أن تكتنِز من رحمها الولود بذارها النقي الحالم، لكي لا يتصفى في جوف القصيدة سوى المس الحارق الوامض، السيال الذي يتدفق من شعر الشعر، أو من روح الشعري وجوهره. ففي الوقت الذي كان يتم فيه تفخيخ الأصوات الشعرية السائدة وتكريسها أيديولوجياً بوصفها حاملة رسالة وتجسيدا لخطاب مقاومة وخلاص ونشدان للأمل، أي بتأويل الشعر على النحو الذي يتعارض مع جوهره وتحميله ما لا يحتمل، كان أنسي الحاج يرى إلى ما وراء السماء التي تلوذُ بها هذه الأصوات وتحتمي، كاشفاً الحُجب وظلالها الوخيمة، لكي تنولّد قصيدته من شاهقٍ أعلى وفي أفقٍ مغاير ومنقطع عن التجارب التجديدية التي كانت تتوخى هدهدة التراث الشعري العربي وتنويمه وصلاً بلا انقطاع. أراد أنسي لقصيدته أن تنبجس من رحم النثر، عارية مُصفاة، محمومة ومحفوفة بزرقة الوعر وهوامه. أراد للغصن أن يهازِّز حفيف أوراقه بحنان حول حواف قصيدته، وللهديل أن يفي بالوعود والنذور للبياض الراعش والممسوس. ففي النثر تتخلَّى اللغة عن زهوها، عن تكلُّفها البلاغي المُصطنع، لتمتص القصيدة شكلها اللادن الشفّاف من رضاب الكلام. في النثر تصلي القصيدة بتمام روحها، وتكفر بكل ما يلوذ بشكلها العاري من الخارج. أرادها قصيدة شفوية مخمورة بنبيذ الكلام. فأنسي كشافُ ينابيع وصائدُ صفاءات وواهب عظيم العطش للحياة.
ولم يكن الشعر سوى درب من دروب حداثته الخضراء المُتشعّبة. فقد محض أنسي الصحافة، التي مارسها طوال حياته، شكلا تعبيريا حواريا يساءل الواقع من منظور نقدي جمالي. كما أنه انشغل في بواكير حياته بتجذير حداثته من خلال الكتابة القصصية، وترجمة النصوص المسرحية، وبدراساته التأملية للموسيقي، وبتأويلاته النقدية للشعر. فمن خلال “خواتم”، وهو الشكل الجمالي الذي اجترح كتابته في السنوات الأخيرة، والذي أخذ من خلاله يُشذّر النثر بالشعر على نحو تأملي يقطّر الحكمة تقطيراً صافياً، اتجه أنسي إلى المحو والتذويب إلى ما وراء الكلام، في الصمت الذي يلي البياض. فأضحى النص المُجترح نصّاً جمالياً مفتوحاً، كما لو أنه أشبه بحية رقطاء بوجه ملاكٍ مختومٍ بعذرية الآلهة وغفرانها.
5
وإذا كان على كل نص شعري أن يُعبِّر عن العالم وروحه، أو بالأحرى عن عوالم تتناسل من عالمٍ واحد يتشظىّ ويتكثّر على نحوٍ لا متناهٍ؛ إذ تدور الذات حول نفسها فتتهشّم إلى ذوات صغيرة مُجهضة ومسحوقة ومعتمة؛ ويستحيل الآخر إلى يبابٍ تائهٍ عن نفسه في صحراء لا مرئية، إلى مسرح من سديم لا يتراقص على خشبته إلاّ العدم وحده، عندها يكون على كل نص أن يكتب نفسه منذوراً لتخليق العالم من جديد، لجمع أشلائه وبقاياه وولادتها مجدداً من أحشائه المُشعة، لكي يَستردنا العالم من شفق البرتقالة المُهتز، ونسترده بدورنا من عصاراتها الراعشة النازفة في أفواهنا.
* شاعر وكاتب من السودان
* تم النشر تزامناً مع ملف الممر الثقافي الذي تُصدره جريدة السوداني بالسودان.