ثمار

عن رحيل المزروعي وتغريبة السودان الفريدة

مزروعي

رحل المزروعي.. إلا أن رحيله قد أوقفني كثيراً، في خاطرة عن غربة السودانيين عن ذواتهم، وعن كثير مما يشبههم في إقليمهم الممتد، وابتعادهم المتعمّد واللزج، عن امتداداتهم الطبيعية في قارتهم الأم أفريقيا ..
يمثّل المزروعي نبوغ العقل الأفريقي، في تجلي المعرفي والاستقرائي والبحثي؛ فهو من أبرز مائة مفكر معاصر في العالم، بحسب تصنيفات غربية وأمريكية، حيث هو المنظر المحقق في قضايا العولمة، من حيث تأثيراتها وتقاليدها الحياتية والتاريخية.
ثم وهو المحدث المفوّه عن الهوية وإشكالاتها في مجتمعات أفريقيا المعقدة، في مكوّناتها المحلية، من فضاء عرقي وقبلي وجغرافي متداخل ومتمازج ومتناحر معاً.. مع تركيبات الهوية الدينية المسيحية منها والإسلامية، إضافة إلی إسهامات أفريقيا الحضارية، ورفدها العالمي من حضارة نوبة الجبال الفراعنة في الشمال إلی الزولو المحاربين في الجنوب، ومن مجموعات البجا الفوزي اوزي في الشرق، إلی الأمازيغ في الغرب، وأخريات تذخر بها أفريقيا. ولاحظ هنا تداخل السودان في كل هذه الحضارات أيضاً، وهو تقاطع ماثل وحيوي، لكنه مغيّب. إضافة إلی مؤثرات الحضارات الشرقية والغربية، في النسيج الثقافي والاجتماعي في أفريقيا.
والمزروعي في كل ذلك، هو المتعلم المثقف المنتمي لعالمه الأفريقي المتنوع والمتراكب والجميل باختلافاته.. المأساوي في احتقاناته.. عمل ببصيرته النافذة علی ذلك تحليلاً واستشرافاً.
وهو المفكر الإسلامي المساهم في تفكيك الغلو والتشدد والتطرف، بآرائه وأفكاره واجتهاداته، عن كثير مما اعتور جسد الثقافة الإسلامية من شطط وتخليط واحتفاء مرضي بالموت، غارق في الدونيّة، مع تمجيد الاستهانة الساذجة والمهلكة بالحياة، ورفض مستميت لكل ما تواثقت عليه الإنسانية في مراحل تطورها من قوانين ونظم.
ثم هو صاحب الآراء الفاحصة والناقدة، لأنظمة الحكم الأفريقية الفاسدة والمستبدة والفاشلة في آن، والتي منها بلادنا السودانية، مسانداً حقوق الشعوب الأفريقية في حياة تحترم كرامة الإنسان، لاستدامة الحرية والرفاه وإشاعة السلام والأمان في ربوعها وحوكمة الديمقراطية .
ثم هو بتعاليمه كان ملهماً للكثيرين من أساطين التحرر والتغيير في أفريقيا، والذين منهم جون قرنق، في رؤيته الموسومة بالسودان الجديد، في تنبيهاته الباكرة للثالوث المكوِّن للهوية الأفريقية، والذي يتطلب قبولاً وتعايشاً يحول دون الموت المجاني، الذي مرّت به أفريقيا وما تزال تمر. ولعل السودان خير مثال لرحلة الفشل الطويلة هذه. للمزروعي آراؤه الناقدة حول خيارات السودان التاريخية، التي أقعدت به وأجلسته مجلساً هامشياً في كل ما يخصّ العرب والأفارقة، في مفارقة مضحكة ومبكية لا تستحقه.. تسبب في ذلك فشل نخب السودان النافذة التي استمرأت ضياع الفرص، واستسهلت الاستسلام للنزعات الشعوبية، حتى تشظّت البلاد الكبيرة، واستكانت للدمار والانهيار.
كسب المزروعي لقب حكيم أفريقيا، بإسهامه المعرفي البالغ التأثير، كأستاذ جامعي تتلمذ علی يديه الكثيرون من قادة شرق أفريقيا، من خريجي جامعة ماكاريري العريقة، وكعالم اجتماع في الجامعات الغربية والأمريكية، له دراساته الباهرة في العولمة والهويات، وكمحقق موثوق في تاريخ أفريقيا، ومثّل مرجعا في ذلك، ومفكر إسلامي كان فاعلاً حتى أيامه الأخيرة في الجمعيات الإسلامية الأمريكية.
بروفسور علي المزروعي، كيني الأصل، ذو الأصول العمانية، المنحدر من مدينة ممبسا الساحلية، يعود إلی أسرة المزاريع العربية، التي منها القضاة والفقهاء والسلاطين، والتي حكمت في تلك النواحي، هي وأسرة البوسعيد بسلسلة سلاطينها التي حكمت الساحل الأفريقي الشرقي من زنجبار وتنزانيا الحالية، والجزر الأفريقية التي في المحيط وساحل كينيا الحالية، الذي حاضرته ممبسا. بلد المزروعي ذلك المزيج الأفريقي الذي أنتج اللغة السواحلية، التي نصفها مفردات عربية تذكرني دائماً بعربي جوبا، وربما العامية السودانية ذاتها في امتداداتها الطرفية.
ولعل ابتداري هذه الخاطرة بغربة السودان، بل وتغريبته المفرطة في المفارقة للأوشاج التي تربطه بأمه أفريقيا؛ هو لأن كينيا بلد المزروعي  كان ملهمه في إسهاماته الثقافية والعلمية والمعرفية الباذخة، ذات المحمول العامر بالقبول بالاختلاف والاعتداد بجمال التعدد.. فهناك كينيا الساحلية ذات الملامح العربية الإسلامية الممتزجة بجذرها الأفريقي، والتي تشبه السودان الشمالي للحد البعيد، وهناك كينيا ذات الامتدادات السودانية في فروعها النيلية والبانتوية كالسلسلة القَبَلِيَّة الممتدة من قبيلة الشلك والجور والأشولي في السودان انتهاءً بقبيلة اللوا في كينيا، وهي في أصلها قبيلة واحدة تتحدث لغة واحدة، ثم البقارة الماساي، وكينيا البانتوية التي منها الكيكيو وتقابلها في السودان الازاندي. وهناك كينيا الصومالية المسلمة، ذات السحنات السودانية، وهناك كينيا المركزية بقبائلها، ولا تخلو عاصمتها نيروبي من ملمح سوداني، يمثل مخلفي جيوش الاستعمار، يستوطن بعض نواحي نايروبي يسمونهم النوبة ويتحدثون العربية..إلخ مما يستدعي المقاربة مع الحالة السودانية؛ إلا أن النزوع السوداني المركزي نحو الصحاري كان أشد وموغلاً في الاغتراب، مما جعلنا غرباء عنهم، وأعني الأفارقة، وعن من نزعنا إليهم، وأعني العربان، هذا قبل التشظي السوداني طبعاً. ولكن غرباء دون تطويب.
ولعل رحيل المزروعي الذي يمثل فقداً جللاً، استدعى هذه الخاطرة عن السودان وكينيا ذات الفسيفساء التنوعي المار، لا تزيد عن كونها مماثلة للحالة السودانية، حتى أن الراحل الكبير نفسه نبه إلی ذلك في إحدی محاضراته النابهة النادرة بجامعة الخرطوم في ستينيات الخرطوم الباهية، وفيها قال حسرته الشهيرة علی وضع السودان الشائه في سافل العربان وهامش الأفارقة، وهو وضع لا يستحقه السودان تكراراً، لو أفلحت نخبه النافذة في استثمار ميزات التنوع وتنمية قوة التعدد وإشاعة قبول الاختلاف، ولكن نقص القادرين علی التمام كان غالباً..
تحدث المزروعي في محاضراته تلك، عن الحدود العشوائية التي ورثتها الدول الأفريقية من الاستعمار، والتي تسببت بقدر غير يسير في فشل هذه الدول لاحقاً، مما ولّد إحباطاً، حدا بالمفكر الكبير للدعوة ذات مرة لعودة الاستعمار مرة أخرى بشكل أو بآخر لتلك الدول.
ويظل رحيل العالم الجليل والمفكر الكبير وغياب ذكره وذكر صيته، عن المنابر السودانية بشقيها، وهو من هو بفضله الغزير علی علم الاجتماع وعلى التاريخ الأفريقي وعلى سبر أغوار العولمة وعلى الحالة السودانية؛
لا يزال غياب ذكر صيته عن المنابر السودانية، يؤكد ما ذهبنا إليه من  التغريبة السودانية الفريدة والمتعمدة عن جذرها الأفريقي، ومنها أننا لا نعلم إلا شزراً وعلى استحياء شيئاً عن شرق أفريقيا، التي نحن منها وإليها تاريخاً وتأثيراً واثتوغرافيا، ولنا في ذلك جهلنا بأبنائنا النوابغ الذين برزوا في تخومها كمثل تعبان ليوليونق الأديب السوداني وآخرين.. هي تغريبة تؤكد أيضاً فرية أن السودان بوابة العروبة والإسلام لأفريقيا؛ فإسلام أفريقيا وعروبتها لم تَحْتَجْ يوما أحدوثة كون السودان بوابته.. فهما كائنان في مشارق أفريقيا ومغاربها، ولم تستدعِ يوماً، بل ولم تتمنَّ تشظي السودان حتى تنعم البوابة بصنميَّة كالتي عليها بوابة عبد القيوم في أمدرمان.
رحم الله بروفسور على المزروعي؛ فبعد أن كنت اطّلع علی آرائه النيرة في بعض إصدارات سودانيين نحارير كمثال الدكتور فرانسيس مدينق دينق مجوك والدكتور منصور خالد والأستاذ كمال الجزولي، اطّلعت مؤخراُ علی القليل من إصداراته، وفرت لدى ثروة لا تضاهي ..ثم اسعدتني الأقدار بزيارة مسقط رأسه مدينة ممبسا الكينية الساحلية الساحرة برفقة أسرتي الصغيرة، وقد رأيت بأم عيني التداعي الجميل بأفكاره بين أهله.. الذين هم نحن أيضاً. لولا تغريبة السودان الفريدة والغريبة هذه…
وما زلت أذكر الوداع الحميم لعامل الفندق وهو يقول (تفضالي جريبو تينا) ..ثم قال (مسافيرو جيما).. لم أَحْتَجْ لمترجم حينها فـ(رفيكي) كان يعني ..تفضل جربو تاني.. وسفرا يجمع…
رحم الله المزروعي فبرحيله فقدت أفريقيا عالماً جليلاً ومفكراً عظيماً وحكيماً نادراً …وأباً من الآباء المؤسسين.

 

* شاعر وكاتب من جنوب السودان

زر الذهاب إلى الأعلى