ثمار

لماذا – إذن – الشعر؟

حاتم الكناني2

(إن الإنسان يعيش شعريَّاً على الأرض).
مارتن هيدجر
(الشعراء يقتبسون غرورهم من البحر).
(لم يبلغ الشعراء درجة النقاء فهم يعكرون جداولهم ليخدعوا الناس، ويوهموهم بأنها بعيدة الغور. إنهم يريدون أن يقيموا أنفسهم موفِّقين بين مختلف المعتقدات، غير أنهم لا يزالون رجال العمل الناقص، السَّائرين على السبل المتوسطة الحائرة).
نيتشه
(لأن الآلهة الثاقبة النظر تكره النمو الذي يجيء في غير أوانه).
هولدرلين

ربما كان هذا متعدياً لكتابة ذاتيَّة، ولعلَّه هو ما يظلُّ دائماً يدفع بي في غواية ما أكتب، ثمَّ أسميه في هوّةٍ ما داخليَّةٍ شعراً، رُبَّما كنتُ أتحدَّى به الغناء الداخلي الذي يسكننِي.. الغناءُ المتوهَّم في كلِّ كلمة، وفي كلِّ صوت يخترق الوجود. نعم الشعر ليس سوى غناء الأعالي، الصوت الذي يخرج من عِقَال الجسد والروح إلى لا نهاية. أظنُّ أن هذا الحلم، هو ذاته ما أراه وأحبُّه في الأجنحة الصوتية للمصطفى سيد أحمد، وفي التعرجات المتراقصة لـ أب داود، والتموجات الصاهلة لدى محمد وردي؛ وفي تصاعد فيروزَ السماويِّ.. ولكنَّ في الشعْرِ شيئاً آخرَ ينطوي على الرجاء والسؤال المومض باتجاه لا نهائي، نحو الغامض القديم، والبعيد المستتر، ذلك المتحقق في كل تركيبة جُمَليّة فيه.
كم مرةً صرخنا بالنداء؟ كم مرة سنصرخ في وجه السقوط القادر على استنزاف ما تبقى من الحكمة الأولى؛ حكمة السؤال؟ أو كم مرة سيستيقظ السؤال؟ سنقول لنا: لقد عرفنا حيل العالم وألاعيب مادته، فامتلكناه وسنسخره، ثم ماذا تبقى من الغموض الأول؟
سوف ننسى أن الغموض هو جوهر الوضوح، وجهه المعكوس، وسننسى خبرات الأساطير والأديان والنظريات التي – بتعبير ما – ما هي إلا ميثولوجيا جديدة تحاول تعقيل العالم.
فالمعرفة – بوجهة ما – تدعم الغموض وتؤسس شرعيته، ومن هذه الوجهة سينكشف العالم لا بوصفه موضوعاً مطالبين بالكشف عنه كواجب مدرسي؛ بل هو موضع اهتمامنا الأول، فالعالم ليس داخلنا أو خارجنا؛ إنه يتذبذب بينهما. وبهذا، فالقلق والريبة فضيلتان، لا تنفصلان عن المعرفة.
شعريَّاً؛ فالطريق ليس مُعبَّداً للرائي الخارج من دائرة السقوط في مشاغل (الآن)، لمواصلة العيش هانئاً من عواقب الأسئلة، ومن لحظة السقوط ذي يبدأ الشعر.. يا للمفارقة! ينطلق من هوة السقوط ذاتها، ليصير مِعْوَلاً للهدم والبناء المستمرَّيْن، مُعَوِّلاً على الوعي الذاتي كآلية لاختراق الجزئي والعابر في حياتنا؛ يبدأ من أي نقطة عابرة.. ثم لا ينتهي.. من حيث لا نحتسب، ومن حيث نجهل!
إنه القلق المغلف برغبة امتلاك العالم، وليس معنيَّاً بما هو معطى بل بما هو ممكن، إنه ينفذ عبر النهائي إلى نقيضه.
هكذا – ربما – يراوغنا الشعر ليثبت أنه ليس عملاً بريئاً وإن ادّعى ذلك، فهو أخطر النعم – كما رأى هيدجر. ولربما كان نوعاً من الحدس الذي يهوِّم بدلالات الأشياء في فضاء من الجهل الكامل، ليفلت من يديْ التعريفات إلى الأبد. هو ليس علماً، ليس أيديولوجيا ولا فلسفة أو ديناً، إنه يستمتع بصفاتها جميعاً ويجعل جوهره مطلقاً؛ يثبت وجوده بوجوده فقط؛ ليس ذلك فحسب؛ بل يمنحها معناها.
منذ أزل والشعر يوقد مجهول الضفة، وسوف يظل محاولةً غير منتهية على الذهن أو الورق أو أرفف المكتبات؛ فكلُّ ما يمكن أن يكون مكتملاً يهوي خارج إرادة الشعر. إنه اللحظة التي يتوافق فيها العقل واللاعقل بكامليّتهما، حينها يلتحم الجزء بالكل، والظاهر بالباطن، والأول بالأخير، واللغة بالتفكير، والذات بالموضوع، والوجود بالعدم، والنشوة بالغثيان، واللذة بالألم، ولا يبقى أثر لثنائية إلا انعدم.
هذه الموسيقى الكونية التي تجتذبك بتوتر ما بين اللفظ والمعنى، كفيلة بأن تخرجنا من هُوَّتيْ العقل والجنون معاً. وبدهياً، فإنه يعمل على توحيد الموجودات بتحطيم ثنائياتها، وإنتاج علائقها وانفتاحاتها على بعضها والإنسان. فأن نُكْتَب شعراً هو أن نتحرر، أن نُفَكَّر بحريَّة، حتى تصبح الحريَّة هي الغاية والوسيلة في آن، نُكْتَبُ بحريَّة، حتى نترادف ولا نعرف أيُّنا يحمل الآخر؟
الشعر إشارة المستقبل، إذ تنكشف العلاقات في ما بعد الفلسفة والعلوم والفكر، كما أنه قذف في المجهول؛ حيث تقترب المسافة بين المجهول وما ندّعي معرّفته.. هل من مهمة أخطر من ذلك؟
ولكن السؤال الذي يمكن أن يلاحقنا إلى حين: إلى أين سيمضي بنا، وهو الذي يشكّل تعريفه مع كل شاعر وكل قصيدة جديدة؟ وهل سينقذ الحياة من يد الاستهلاك إلى أصالة الوجود الإنساني؟
ما أقسى هذا التفاعل المركب: بينك والعالم، بينك والقصيدة، بين القصيدة والعالم.. وهكذا في تبادلية مطلقة.. تهدمك قصيدة لتبنيك بشكل آخر أمام نفسك.. القصيدة التي تجب ما قبلها.. ولا تفتأ أن تتحول معك في حالات متعددة وتعلِّمُك كيف تتغير إلى قصيدة أخرى.. فإن لم تفعل فلا رجاءَ من كتابتها.. العالم ينكشف ونحتاج إلى اللغة لنفهمه، واللغة نبيّها الشعر، ذلك الذي لا ينفهم إلا به.. وهو الطريق إلى الطريق بلا نهاية.. هل نعبر الوقت بالشعر أم يعبرنا؟ نهزمه أم يهزمنا؟ هل نترك أثرنا من خلاله أم يترك أثره فينا؟ هو ليس كافياً لكل هذا الجمال المختزن واللامحدود، ليس كافياً ليتحقق الحلم على الأرض، بل ليس كافياً حتى لمراقبة هذا العالم وفهمه.
الشعر لحظة متعة، بهجة، وانفلات. موضوعيَّاً، لا أجد تفسيراً لسؤال (لماذا أنوجد شعرياً؟). ذاتياً، يوجدني الشعر لأتحرر، أُكْتَبُ بلغة الرغبة لأحقق الرغبة نفسها، أُكْتَبُ ليحقق النص لا تناهيه عند آخر، أُكْتَبُ لأنني ما زلتُ في الاندهاشة الأولى ببساطة الكلمات وقوة تعبيرها. أُكْتَبُ لشبح ما في المخيلة، لأنسكب من جرة الصمت، لأُنفَخ روحاً في جسد من جديد، لأتلذذ بالعالم، وأصير نهراً أو شجرةً أو تفاحةً، أُكْتَبُ لأتألم من قسوة المادة عليَّ. ولأن المعنى مادة سائلة، أحاول لمَّه في جرتي، ولا أقوى صبراً، أُكْتَب.

 

* شاعر من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى