النوير الثقافة والتقاليد
مجموعة تعيش على النيل بجنوب السودان، ، وينتمون مع شعب الدينكا إلى أصل واحد، وهم ثاني أكبر المجموعة النيلية، إذ يحتلون المرتبة الثانية بعد الدينكا من حيث التعداد السكاني، ثم يليهم الشلك، وتحكي أساطير النوير شبه المقدسة لديهم أن جدهم الأكبر «لاتجور» قد عبر النيل الأبيض ، ثم سار بهم إلى شرق ملكال حيث استقر بهم المقام هناك، والنوير في كل أنحاء جنوب السودان، يتحدثون بلهجة واحدة وأسلوبهم في الحياة واحد ويعتقدون أن تاريخهم يبدأ من منطقة ليج المقدسة لديهم، حيث شهدت هذه المنطقة نشأة جميع فصائل شعب النوير ثم تفرقوا منها إلى جميع مناطقهم الحالية ثم نزحوا غرباً حتى استقروا بمنطقة «ميوم»، ثم اتجهوا شرقاً فسار كثير منهم إلى اكوبوا وواط والناصر وميود وايود ومن فروع النوير هناك «ليك وجكناج بمحافظة ربكونة» و«نوير جقي واروك وادوار ونونق بمحافظة اللير» وهناك فروع شتى للنوير بمركز فنجاك ويمتدون إلى داخل الحدود الإثيوبية.
في دراسة لأيفانز بريتشارد عن النوير والتي ضمنها على وجه الخصوص في كتابه الأول « النوير ـ طبعة لندن عام 1940» والذي بين فيه مدى تأثر النسق القرابي والنسق الاقتصادي والسياسي بالظروف الإيكولوجية السائدة في هذه المنطقة، حيث تنحصر هذه الظروف في مناطق المجموعة في عدة عوامل جغرافية أهمها استواء الأرض التي تتكون من تربة طينية ثقيلة تستطيع أن تحتفظ بالماء لفترات طويلة، ثم تعرض الأرض للأمطار الغزيرة التي تسقط في فصل الصيف والتي تؤدي إلى فيضان الأنهار على الجوانب فتحول مساحات كبيرة من الأرض إلى مستنقعات واسعة تغطي الأرض ستة شهو ر في السنة وتكون حشائش السافنا، ويعتبر فصل الشتاء هو فصل الجفاف حيث تجف الحشائش وتتعرض البلاد لفترة قاسية من الجدب الشديد، وهذا التعارض الواضح أدى إلى تأثر الحياة الاجتماعية والاقتصادية على البناء الاجتماعي الشامل ، فبلاد النوير بلاد رعي من الدرجة الأولى ويؤثر ذلك في كل الحياة الاقتصادية والتنظيم الاجتماعي ونسق القيم على السواء.
يعتمد النوير في معيشتهم على الماشية «البقر» ويعتبرون الرعي أهم وأشرف مهنة يمكن للإنسان أن يمارسها ويحتقرون ما دون ذلك من المهن والأعمال، كذلك تعتبر الماشية أيضا أهم عنصر من عناصر الثروة بالإضافة إلى أنها تعتبر المحور المركزي الذي تدور حوله حياتهم الاجتماعية كلها؛ فهي وسيلتهم لدفع المهر والزواج، وهي أداة دفع الدية وتقديم الأضاحي والقرابين للأرواح، فضلاً عن كونها عنصراً هاماً في غذائهم الذي يتضمن دائماً اللبن.
بيد أن الرعي لا يمارس هناك إلا في فصل الجفاف بعد أن تنقطع الأمطار وتجف المستنقعات بحيث يمكن التنقل بسهولة وحرية، كما أن الغذاء لا يمكن أن يقتصر على اللحم واللبن ولذا كانت النساء يقمن بزراعة الذرة وبعض الخضراوات في مساحات محددة من الأرض في موسم المطر، وذلك بالإضافة إلى صيد السمك من النهيرات والمستنقعات. وبذلك أمكن تحقيق درجة عالية من التكامل الغذائي هناك نتيجة لتلك الظروف الجغرافية المتعارضة التي تتيح فرصا متعددة للعمل واستغلال الموارد الطبيعية المختلفة على مدار السنة.
في نهاية موسم الأمطار يحرق الناس الحشائش لتوفير مرعى جديد ويغادرون قراهم للإقامة في معسكرات صغيرة. وعندما يصبح الجفاف شديداً تتركز مساكن تلك المعسكرات الوسطية حول مصادر المياه الدائمة.
وبالرغم من أن تلك التحركات تتم أساساً من أجل الأبقار فإنها تمكن شعب النوير أيضاً من صيد الأسماك، وهو ما يكاد يستحيل من مواقع القرى، ولو بدرجة أقل، فهم يمارسون صيد الحيوانات وجمع الفواكه والجذور البرية، وعندما تهطل الأمطار مجدداً يعودون إلى قراهم، إذ تتوفر حماية للأبقار وتسمح الأرض المرتفعة بممارسة الزراعة.
أكواخهم غير منسقة قريبة من الشكل الهرمي، وتتألف تلك الجماعات المحلية من العائلة أحادية الزواج المرتبطة بكوخ مفرد ، وتحتل العائلة مسكناً واحداً في القرية الصغيرة، والمعسكر، والمنطقة، والأقسام القبلية ذات الأحجام المختلفة، والقبيلة ومن عاداتهم التدخين رجالاً ونساء.
تعتمد المجموعة في لبسها على بعض الملابس المزركشة من الخامات الطبيعية أو الجلود، ويضعون عقدا من الخرز حول الخصر، ، ويلطخون وجوههم بالرماد وبعض الألوان، ، وتعد العائلة، والعائلة المنزلية، والقرية الصغيرة جماعات منزلية أكثر منها سياسية. وتتجمع القرى والوحدات السياسية لأرض النوير في أقسام أو فروع قبلية. وهناك بعض القبائل الصغيرة جداً إلى الغرب من النيل تتألف من قرى متجاورة فقط، وفي القبائل الأكبر إلى الغرب من النيل وفي قبائل شرق النيل كلها نجد أن الإقليم القبلي ينقسم إلى عدد من المناطق التي تفصل بينها أراضي غير مأهولة، والتي تعترض بين أقرب مواقع إقامة لقبائل متماسة أيضاً.
لا يتزوجون من الأقارب كما لا يصح للنويراوي أن يتزوج من أقارب زوجته إلا بعد موتها، وهم غير مقيدين بعدد من الزوجات، فيكون التعدد حسب الاستطاعة والقدرة فقد يصل أحيانا من 10 ــ 15 زوجة ، ومن لا يملك بقراً فهو من الفقراء فيدفع له أهله وأصدقاؤه البقر كمهر لأهل العروس، ليقوم أهل العروس بإرجاع جزء من هذه الأبقار إلى بيت الزوجية. ويسمى البقر المرجوع «تيوك»، أما البقر الذي يدفع كغرامة فيسمى «شواي جين روف».
وحول أنواع الزواج وطقوسه فإن مراحل الزواج تبدأ بالنشأة، والفطام، وخلع الأسنان، والشلوخ «عمل علامات غائرة في الجلد» والزواج لدى النوير أكثر من تسعة أنواع أهمها زواج الموتى زواج الأرمل، وزواج الأرملة، وزواج المعوق، وزواج المعوق تعتبره القبيلة خيراً، وطالما له قدرة إنجابية يتكفل المجتمع بتزويجه، ولكن لا تقام مراسم لهذا الزواج مراعاة له. أما زواج الموتى فإذا توفي الشخص ولم يتزوج يمكن لأخيه أن يتزوج امرأة باسمه وأن ينسب الأولاد له.
يكتنف تحديد الجماعة السياسية في النوير بعض الصعوبات لأن وحدات البناء السياسي في هذا المجتمع تتداخل وتمتد حتى تبدو للملاحظ الذي ينظر إلى المجتمع في مواقف معينة-مثل حروب الإغارة – كأن النوير يكونون بناء هرميا للسلطة التي جعلت صغرى الوحدات الإقليمية تذوب وتتحد في الجماعة الكلية المحاربة، والنوير أنفسهم يشعرون بهذه الوحدة التي تميزهم عن القبائل والشعوب الأخرى المجاورة، فضلا عن أن قيم النسق السياسي تفرض أنواعا من الالتزام تتعدى حدود القبيلة الواحدة في النوير لتربط بين عدد من القبائل في وحدات اجتماعية مؤقتة، وتنقسم القبيلة إلى أقسام إقليمية من الدرجة الأولى ينقسم الواحد منها إلى أقسام من الدرجة الثانية، تنقسم بدورها إلى أقسام من الدرجة الثالثة ويتكون القسم القبلي من الدرجة الثالثة من عدد من القرى أو المحلات والوحدات السكنية والأكواخ، بمعنى أن التقسيم يتم هكذا:
هناك قانون داخل القبيلة؛ وآلية لفض النزاعات والتزام أخلاقي لاحتوائها عاجلاً أم آجلاً. إذا قتل الشخص أحد أفراد القبيلة، فيمكن منع أو حجب الضغينة بدفع أبقار بين القبيلة والأخرى، وليست هناك وسائل للجمع بين الأطراف في النزاع ولا يقدم التعويض.
ويجب ألا نفترض أنَّ العداءات داخل القبيلة يمكن حلها بيسر، فهناك سيطرة معتبرة على الثارات داخل القرية، لكن كلما كبر حجم الجماعة المحلية أصبحت التسوية أكثر صعوبة. وعندما يدخل قسمان كبيران من القبيلة في عداء، فإن فرص التحكيم الفوري والتسوية تكون ضئيلة، تختلف قوة القانون باختلاف المسافة في البنية القبلية التي تفصل الأشخاص المعنيين. ومع ذلك طالما أن الإحساس بالجماعة يظل باقياً والعرف القانوني معترفاً به رسمياً داخل المجموعة ، بغض النظر عن التقلبات والتناقضات التي قد تظهر في العلاقات الفعلية بين أفرادها، فإنهم يظلون يعدون أنفسهم مجموعةً متحدة. ومن ثمَّ إما أن يتم الإحساس بالعداءات وتسويتها، وبالتالي الاحتفاظ بوحدة الجماعة، أو أنَّ العداءات تظل غير محسومة بحيث يفقد الناس الأمل والتطلع إلى التسوية وأخيراً يتوقفون عن الإحساس بأن عليهم تسويتها.
يوجد في كل عشيرة فرد له شرف «افتتاح انتقال المرحلة» التلقين وإغلاقه وأن يعطي التسمية لكل طبقة عمرية. ينتمي هذا الفرد إلى واحدة من سلاسل النسب التي لها علاقة طقوس بالأبقار ويعرف هؤلاء الأفراد «برجال الأبقار». ويفتتح فترات التلقين ويغلقها في منطقته وتحذو المناطق الأخرى لقبيلته حذوه. بمجرد أن يتم افتتاح الفترة، فلكل قرية ولكل منطقة أن تلقن أطفالها وقت ما تشاء. ولا ترتبط الطبقات العمرية بنشاطات مشتركة ولا يمكن القول بأنَّ لها وظائف سياسية. ليست هناك مراتب للمحاربين وكبار السن حيث ينشغلون بإدارة البلاد، وليست للطبقات العمرية وحدات عسكرية، إذ يقاتل الفرد مع أعضاء مجتمعه المحلي، بغض النظر عن عمره. ليس هناك تدريب تعليمي أو أخلاقي في طقوس التلقين، وليست هناك قيادة في الطبقات العمرية، ولا يوجد عادة أكثر من ست فئات عمرية في وقت واحد، طالما أن ست فئات تغطى حوالي خمسة وسبعين عاماً. وكلما ماتت فئة يظل اسمها عالقاً في الذاكرة لجيل أو جيلين، ومن ثمَّ يرتقى الفرد من مرتبة دنيا إلى مرتبة وسطى، ومن مرتبة وسطى إلى مرتبة عليا في مجتمعه بوصفه عضواً في جماعة. وبالتالي يمثل التراتب في نسق الطبقات العمرية المزيد من التجسيد لمبدأ التشعب للنوير. والدور الأكثر بروزاً للطبقات العمرية في تحديد السلوك يكمن في الطريقة التي تتأثر بها الواجبات والمصالح خلال الانتقال من الطفولة إلى الرجولة. أيضاً فإنَّ كل ذكر من النوير يكون، بفضل وضع طبقته في النظام، وبعض الرجال يكونون «أبناء له»، وبعضهم «أخوة له»، وبعضهم «آباء له». دون الدخول هنا في التفاصيل، ويمكننا القول إنَّ سلوك الرجل تجاه الآخرين في مجتمعه يتحدد بأوضاعهم في نسق الطبقات العمرية. وبالتالي فإن العلاقات العمرية، شأنها شأن علاقات القرابة، وهي محددات أساسية للسلوك، فالنسق السياسي الإقليمي ونسق الطبقة العمرية كلاهما متماسك في ذاته ويتداخلان في حالات، لكنهما لا يعتمدان على بعضهما.
* تم النشر تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تُصدره جريدة الموقف بجنوب السودان.