ثمار

كُثبان النمل في السافنا

حاتم

قد يكون صحيحاً أن كثبان النمل تأخذ طابعاً سياسياً بالرغم من أنه من الصعب الاختلاف معها في رؤيتها وما تقترحه من ملاحظات عميقة حول  السياسي سيما في أفريقيا والعالم الثالث عموماً. فإن كان المقصود بكلمة (سياسية) هو ترويج لاتجاه أيديولوجي معين أو حتى تبرير الهجوم على السلطة من مدخل أيديولوجي آخر مناوئ لها، فلا أظن أن رواية تشينوا أشيبي قد تحمل أي شبهة من هذا النوع من الكتابة. ولكن أن يكون السياسي كموقف نقدي عفوي يصدر من ضمير الكاتب الحرولا يأبه بضيق المُسميات والتعليبات الجاهزة، فذلك شأن آخر. وتأتي الإشارة لذلك من خلال سطور الرواية في تلك العبارة الذهبية على لسان آيكم الشاعر والصحفي:( الكاتب لا يصف حلولاً، ولكنه يسبب الصداع).وأظنُ أن هذه لوحدها كافية للتأثير بإتجاه قراءة فاعلة ومنتجة للنص والتي يمكن أن تجمعها صلة ما بتلك الرؤية الحاذقة-الواسعة التي قدمها المفكر الأفريقي الكبير فرانز فانون، كما نجدها عبر الموقف النقدي الذى يمثله  إدوارد سعيد .

وقد نتساءل مع الكاتبة الألمانية هيرتا مولر التي قالت : ( لا أعرف شيئاً أكتب عنه سوى الديكتاتورية)، ما لذى يمكن أن يفعله الكاتب، وماذا يفعل بالكتابة في مجتمع يدور ببطء كارثي داخل عجلة الديكتاتورية والديمقراطيات المُزيفة. حيث أن كل كاتب يجد نفسه يكتب عن عصره الذى يعيش فيه كما قال جيمس جويس، فإن أتشيبي كان يرى الأشياء من حوله بطريقته الخاصة، ولذلك جاء النص متخففاً من حمولة السرد المركزي الذى ينهض على قانون وحدة الفعل الروائي حيث يكسر نمط السرد التقليدي الذى تهيمن عليه مركزية البطل الواحد، الراوي الواحد الخ… لينفتح المشهد السردي على أكثر من بطل، وتتعدد بالتالي زوايا النظر وتختلف الاتجاهات وإن كانت تجمعها في الآخر قاعدة درامية مشتركة تعمل كخلفية لدراما مقاومة المراوحة أو الدوران مع عجلة ديكتاتورية –ديمقراطية مزيفة التي تسكن أرضنا الأفريقية.

وكما في روايته السابقة (الأشياء تتداعى) والتي يعتبرها الأوربيون عبارة عن ( قطعة أنثربولوجية) لا تقدر بثمن في وصفها وعرضها اللامحدود لأشكال الحياة الثقافية والاجتماعية في أفريقيا من خلال مجتمع (الأيبو) الذى تتحرك داخله أحداث الرواية، يزخر النص (كثبان النمل) بمادة محكمة من الأساطير والحكايات الشعبية الأفريقية التي ترقى لأن تكون إرثاً إنسانياً  يجب الاهتمام به وتمديد أطار تداوله ونقله كإسهام أفريقي يرفد مناهل الحكمة الإنسانية. وقد برع الكاتب في الإستهداء به وتوظيفه وإعادة إنتاجه بشكل إبداعي مُلفت على صفحات الرواية. مثل قصة النمر والسلحفاء التي تنضح بروح التمرد والمقاومة بل بإدامتهما والسهر على إيصال صوت الرفض للآتين ليستمر الأمل و الفعل المقاوم كخيار نهائي.

وتتخلل النص بعض الوقفات الذهنية بتعبير الكاتب نفسه، والتأملات والاستطرادات والتي تصلح

لتكوين أرضية إسمنتية لبناء نقد شامل ومتميز طالما تفتقده حياتنا الأفريقية الراهنة، يقول: ( الحياة من غير تدبُّر غير جديرة أن تعاش). ونجد أيضاً تحليلاً رائعاً وعميقاً في وصف الحال السياسي ( إن الخطأ الرئيس لحكوماتنا هو خطأ حكامنا في عدم استعادة الصلة الحيَّة مع الفقراء والمعوزين في هذه البلاد، مع القلب المُحطَّم الذى ينبض بالألم في جوهر كيان هذه الأمة). كما نجد أيضاً تلك الكلمات التي تحفِّز على النهل من معين الحكمة الشعبية، ( الأمثال والحكم مثل الزيت الذي تغمس فيه الكلمات حتى يسهل هضمها).

وبإتجاه آخر يعمل النص  على خلخلة البنية النفسية والفكرية للنخبة الأفريقية، أولئك المتعلمين الأكثر حظاً في المعرفة والعلم، ويأتي ذلك في إشارته لمشاهد من حياة هؤلاء الأشخاص وكيف يفكرون، وكيف يتعاطون مع الشأن العام، وعلاقتهم بالسلطة الخ..،  من خلال تلميحات تصف شكل العلاقة الكسيحة بين المثقف والحاكم (نعم ياسيدي ….ونحن في غاية الأسف)، ( سأكون مغفلاً لو اعتمدت عليكم…) ( تماماً يا صاحب الفخامة)، بل يصل الأمر لحد التذلُّل المُضحك كما في حوار الوزير –الذى كان أستاذاً للعلوم السياسية بالجامعة قبل أن يصبح وزيراً : ( سعادتكم لست قائدنا فقط، بل مُعلمنا أيضاً…)، وهنا يجدُر السؤال المباشر، ألا يحدث ذلك كل يوم في بلادنا؟ أظن أنها أبلغ صورة لوصف الهزيمة المعنوية والانكسار النفسي للمثقف ونخبته التي أصبحت مجرد رباط على حذاء الجنرال، إنه اليأس أيضاً كما نجد في الحوار التالي مع كريس، أو وزير إعلام الديكتاتور : (( حتى ولو بذلت مجهوداً جباراً وقدمتُ استقالتي اليوم ماذا سأفعل بعد ذلك؟ أذهب إلى أوربا وأشرب كميات كبيرة من الخمر في العواصم الأوربية واضاجع الكثير من الفتيات البيض، بعد أن أكون قد ألقيت محاضرات ثورية على مستمعين معجبين بي ..)).

هي إذن محنة المثقف في مجتمعاتنا، والتي يجري معالجتها في النص بوضوح تراجيدي، فإما أن يدخل طائعاً مختاراً  لقفص الترويض، ويصبح دمية مضحكة في يد الديكتاتور أو أن يختفي بالموت أو السجن أو الهجرة، وفي كل الأحوال لن نرى سوى كثبان النمل المتراصة على جنبات الخواء والبوار الشاسع، يختفي النمل بالداخل لسببٍ ما ولايترك لنا سوى علامات، وهي في أغلب الأحايين لا تمنحنا سوى معاني مبعثرة للتردي والسقوط. تقف تلك الكثبان المترامية كدليل على     ( حريق السنة الماضية)، أو شاهداً أنيقاً على الموت والخذلان.

بإمكان القارئ أن يعثر على فتنته الخاصة داخل رواية ( كثبان النمل)، فهي كما يقول رولان بارت ( مجال واسع للاستجابة الذاتية). وهي سمة النص الخالد، حيث  أن الرواية ظهرت في العام 1987م ولكنها تجعلك تحسُ بطزاجتها وروحها الحيَّة، وكأنما كُتبت الآن، بقي أن نتساءل، لماذا يتم إهمال متعمد للكتابة الأفريقية؟ أقصد الاهتمام على مستوى الدولة والوسط الثقافي في بلادنا؟. هنا أجد نفسي على استعداد كامل للتنبيه على أن الأجواء والمناخ الاجتماعي والفضاءات التي تتحرك فيها روايات تشينوا أتشيبي – وكوتسي – نقوزي أدوتشي و وول سوينكا الخ.. وغيرهم من الكُتاب الأفارقة هي أجواء سودانية أو شبه سودانية، وبكلمة واحدة يمكن أن أصف ذلك بأنها تُعبِّر عن روح أو خصوصية لا نجدها في الروايات والأعمال العربية والتي تحمل خصوصياتها ونفسها المُختلف هي الأخرى. ولكنها وجدت حظاً أفضل لدينا حيثُ تم َّ تشغيل آليات الدعاية والأضواء من قبل النُقاد والمهتمين بالثقافي عندنا، حتى كِدنا أن نظن أن مجتمعات (شرق المتوسط ) هي نفسها المجتمعات التي نعيش فيها!، يجب ايضاً بهذا الخصوص أن لا نُسقط من حسابنا أن الأدب هو إنساني في المقام الأول، ولكن تظلُ النكهة والبصمة ورائحة الأرض تمسُ وجدان المتلقي  وتستفزه بشكل أكبر، بالمعني (الظاهراتي –الباشلاري) لفعالية النص.

 * كاتب من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى