ثمار

كثبان الماء

منصور-الصويم
على كتفه عبر بها النهر. كان ابن سبعة عشر عاماً، عظيم الجسم مفلطح القدمين، عيناه دائماً حمراوين، وهي كانت ابنة عام واحد، بيضاء مشعّة، شعرها أسود كثيف يغطي وجهها وجزءاً من صدرها.
قالت: “حين خاض في الماء، كانت السيوف تجلجل خلفه، وكانت بنادق البارود القليلة تتكسّر أمام دمدمة المدافع الآتية، لكنه عبر بي النهر تاركاً وراءه رائحة البارود ودماء أبناء العشيرة المراقة أنهراً”. ولكم حكت لك ولكم استوقفتها، أعادت سرد ذات الأحداث مرات ومرات، كنت تراها دائماً بعينيك الصغيرتين؛ طفلة صغيرة يلفها البياض وتحوطها المياه الزرقاء، تنام وتصحو فتجدها أمامك ساجدة، تقضي ليلتك مسهداً مقروح العينين، ثم تجدها أمامك ساجدة، ولكنك تصحو الآن ولا تعرف إن كانت ساجدة أم أنها سابحة في أنهر ماضيها المتفجرّة قريباً حتى إنك تعجز عن تحديد منابعها: هل هو يوم العبور والشاب الضخم يحمل على كتفه طفلة صغيرة بيضاء؟ أم هو يوم انبثاق تلك التبلدية التي حدثتك عنها، التي يجلس تحتها رجل عيناه حمراوان، وشاربه كث ضخم يقضي بين الأعراب ويعلق مدانيهم على أفرع تبلديته الشائخة؟
قالت لك، وأنت تجثو بقربها، ويداها تدعكان العجين: “حين حطّ بنا في كردفال كنت بدأت أمشي وأتهته ببعض كلمات، أتبعه كظله وأناديه “أبوي”.. ثم جاء بامرأة سوداء فارعة ناعسة العينين صرت ألزمها وأناديها بأمي، إلى يوم مماتها المفجع”.
تنصرف فجأة إلى أشيائك حاملاً معك صورة صبية بيضاء مشعة تلهو بكثبان الرمال وبمياه الأنهر. تنصرف أنت في سنوات حلمك، وتنصرف هي إلى ترتيق أشيائك، إلى لملمتك وتنظيفك لتكون حلمك. تأخذك في خروجك عجوز بيضاء بساقين معوجتين، تأخذها حاملاً أشياءها ثم تعود لترجعها، لترجعك عجوز بيضاء بظهر تقوّس تحمل أنت أشياءها وتحملك أنت.
(2)
كنت أتركها كثيراً لنفسها، لمياه نهرها ولكثبان رملها. أمضي أنا في ضجيج سنواتي العشرين، أغازل الفتيات في الشوارع وأحكي لهن في المنتديات عن طفلة النهر التي عبرت المائة، وبقيت حتى الآن فقط لأجل أن تسندني وتطعمني وتدفعني إليهن حلماً. أتفوق في دراستي، أتمحك بجزلانها العتيق، أستهبلها بإعادة سرد حكاياتها الحميمة، أقول لها: “لا تذكرين كم كان عمرك، لكنك فجعت حين حملوك لتجدي نفسك بين يدي الرجل الذي شرب أمامك قبل أسبوع فقط بُخْسَة السمن الممتلئة، أغمي عليك، ثم ماذا حدث؟”. تضحك، عجوز بيضاء ذات شعر كثيف يغطي وجهها وجزءاً من صدرها تضحك وتقول لي: “صرت كثيراً تذكرني بأبيك”. ثم تصمت.
أسحب ما أشاء من جزلانها العتيق، أدرس في صخب، أحكي لرفاقي في صخب الليالي عن الرجل الضخم أحمر العينين الذي نزل برمال كردفال وحيداً تصحبه طفلة ذات ضفائر سوداء كثيفة تجري وراءه وتناديه “أبوي”. وأحكى لهم عن المرأة السوداء الفارعة ناعسة العينين التي صارت ترى وبرفقتها الطفلة ذات الضفائر تجري وراءها وتناديها “أمي”. ثم أقول في غموض: “المرأة السوداء وجدت فجأة ذات صباح خريفي مطير غارقة في مياه الفولة وعيناها تبرقان ببريق غموضها الأبدي”.
تدخل فجأة، تدهمني وتداهم الرفاق، ثم تبدأ في تعديل سرد الأحداث: “المرأة السوداء لم يكن بها غموض قط، جاءت من أقصى غرب البلاد هاربة من أشياء تخصها، وغرقت في مياه الفولة لأشياء تركتها بأقصى غرب البلاد عرفها الشيخ أحمر العينين فقط”.
أظل أجري، ألهث، أعلق حول عنقي حقيبة، وأسوِّد عشرات الدفاتر بأشعاري ورسوماتي، أبعثر حكاياتها في كل مكان أحط عليه، أخلط أحياناً صورة أبيها، أحمر العينين بصورة أبي أحمر العينين مثقوب الصدر. آخذها في الصباحات، أتكئ عليها أو تتكئ عليَّ، تبيع وتشتري، أدرس وأنجح.. تحكي وأحفظ.. تبني فيَّ وتتهدم.
(3)
تقعد بقربها، تحتها، تلتصق بها، صغيراً كنتَ بطول ساقها، عيناك صغيرتان متسائلتان، وفمك فاغر دَهِش، تتابع حركة يديها الملطختين ببياض العجين. تبقى بقربها، تستمع لحسيس النار، ولصياح ديوك الفجر، ونقيق الضفادع البعيد. تلتصق بها، تغرز عينيك في وشم خدها، ثم تطوف بخطوط جبينها المتقاربة حتى تضم فمك الفاغر الدهش، تسألها: “أكنت تجيدين السباحة؟”. لشفتيها المزمومتين تُبيح انفراجة، تبتسم، دائماً تبتسم حين تسأل، ودائماً تسأل أنت لتبتسم هي.
تخبرك بأنها أصلاً لم تنشأ قرب أنهار، وبأن كثبان الرمال كانت ملعبها وهي صغيرة، كانت تتسلق شجر التبلدي، ويأخذها الرجل الضخم أحمر العينين ليريها مياه الفولة، ويخبرها بأنه عبر بها مياهاً تفوق هذه مرات. تكبر بقربها، تحتها، تستفزك بحكاياتها وترعى حلمك، تبيع فطائرها وتلتهم أنت دروسك، تراها طفلة بكتف رجل أحمر العينين، وتراك هي حلماً خاصاً بعينين ضيقتين يتكون قربها، ثم تأتيها ثملاً تتساند على الحيطان، فمك فاغر، وعيناك حيرانتان، تتقيأ أمامها وتصرخ في وجهها وقحاً: “لماذا هرب أبوك ووراءه النيران تحصد الرجال؟ بأي حق حكم العربان في كردفال؟”، يرتعش وشمها، تهتز أمامك وتصرخ فيك: “أمك لم ترك قط، ماتت وأنت مسجى تملأ الكون بصراخك الراعش، أبوك مات مختنقاً بسعاله، بعد أن ثقب السل صدره، وأطارت الخمر والسياسة عقله، وأنا أبقاني الله فقط لأجلك، لكنك لا تعي، لا تفهم”. ثم تجهش بالبكاء، عجوز بيضاء ذات شعر كثيف يغطي وجهها وجزءاً من صدرها، تبكي أمامك وتبكي أنت، تنتشلك من لجج نزواتك، تعيدك إلى حلمك، إلى حلمها، تخبرك بأن السخف فقط قتل رجلها شارب السمن بالبُخسة، حين شرب أربع عشرة زجاجة عرقي في مباراة خاسرة ضد أحد صعاليك الخواجات بحانات أم درمان البائدة.
(4)
أتركها لقلاع رملها، لأنهرها ولزوارقها الورق، أمضي أنا معلقاً حقيبة حول عنقي، أسوِّد الورق بأشعاري، أمضي في تخطيط رسوماتي. المرأة السوداء الفارعة ناعسة العينين حزينتهما تتكرر خطوطها هي والعيون الحمراء والرجل المنحني في ألم ممسكاً بصدره والرذاذ قاني الحمرة يتطاير حوله. هل تثير أحداً رسوماتي؟ أم حكاياتها التي تثير؟
قالت مرة وقبل تداخل الرمال بالمياه لديها: “مات بعنف، بقسوة اخترقه الرمح ورفض الخروج، ترنح بعينيه المحمرتين، ربط الرمح بطرف لجام فرسه ثم جعله ينطلق، جثا، لم يئن.. أحشاؤه تدفقت أمامه ثم مضى”. أمضي أنا بتأملها، عادت طفلة كما أحكي، صغيرة بيضاء مشعة شعرها كثيف يغطي وجهها وجزءاً من صدرها.
(5)
تقعد بقربها. عادت ضامرة تتوسط فراشها، تمسك بحبات مسبحتها، تَسبح بعيدا في أنهر زمانها الآفل الحميم، تقعد قربها، تحتضن كتبك وترقبها، تسمعها تحادث أناساً لا تراهم أنت، وتبصرها تشرب من مياه مخزونة بجوف أشجار تبلدي.. تقترب منها وتهزها، تهتز حبات مسبحتها تقول: “قتلوه لأجل امرأة سوداء فارعة ناعسة العينين حزينتهما”. تصمت وتعود سابحة من جديد في أنهر ماضيها الحميم.
تنصرف أنت لتطارد حلمك، حلمها، تأخذ أشياءها وأشياءك، تبيع وتأتيها، تضعها على كتفك ثم تعبر بها نهراً تراودها مياهه، تجري برفقتها شابكاً يدك بيدها؛ تجريان، تشقان رمالاً كثيفة وتحصبان ثمار تبلدي غضة. بقربها تقعد تخطط رسوماتك، تلتفت إليك، تناديك باسم أبيك مرات وتناديك باسم رجلها الذي مات سخفاً مرات، وكثيراً تناديك “أبوي” وتسألك: “أمي غرقت؟”.

صرت أهدهدها، وأمشط شعرها، أغذيها وأغني لها لتنام، وحين تسألني عن ابنها أخبرها بأنه لم يمت بالسل، وبأنه لم يسكر قط، وبأن البوليس لم يحطم عظامه في يوم من الأيام.
أجلس بقربها، أرقبها حتى تنام وتسبح بعيداً في كثبان مائها.. أتخيل أحمر العينين يصلي حقاً وراء الباب تحت ظل الشجرة الشائخة، كما أخبرتها لتنام.
أظل أجري، ألهث، أعلّق حقيبة حول عنقي وأطارد حلماً يتشظى، أحاول لملمته، ترميمه، تقديمه لها من جديد حلماً خاصَّاً كانت ترعاه، تترجاه، تحلم به في كل صباحاتها البعيدة القريبة، تحلم به حين كانت تبيع فطائرها، تحلم به حين كانت تبيع طماطمها وخضراواتها.. والحميم جداً من أشيائها.
ــــــــــــــــــ

من مجموعة (كانت وكان وكانت الأخرى) قيد الصدور

 

* روائي وقاص من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى