بلدة الرجال الحزانى
الشمس توردت بحمرتها الشفقية. بكاء الرجال الحزانى الذين يحملون نعشَ ميتهم الأول في هذه السنة إلى قبره، كانوا مذهولين وتحفهم الآلام من كل الجُنب، وعليهم إيقاد شعلات مضطرمة باللهب على حواف قبره، حتى لا يتسلل إليه الشيطان، ولئلا يؤزه فيما بعد وتنقلب روحه نقمة على الأحياء.
ولكن في الحال، قال قريب للميت، أصلع الرأس وذو شارب ضخم، إنه لن يتم إشعال النار مهما يكن، وإن الشيطان لم يعد بوسعه التأثير على من فقدوا الحياة، وإن من فقدوها لن يعودوا يشعرون بنا نحن الأحياء، بما فينا الشيطان نفسه، مهما كان حجم القصص التي تقول بذلك.. غير أن الرجال حاملو النعش لم يعيروه اهتماماً، فهم لن يتنازلوا عن موقفهم؛ كل من يمت تزامناً مع غروب الشمس، كما جرت العادة من قديم، يوقد له اللهب حتى الصباح لحراسة روحه من الشيطان، وجعله مستعداً على أن يضطجع في سلام، ولكن إذا تسلل إليه الشيطان، فلن تؤمن الحياة في بلدة الرجال الحزانى لمدة عشر سنوات قادمة، وستكون روحه شريرة، ولن تترك الأحياء يعيشوا بسلام. أضاف رجل عجوز، كان يوقد في النار نفخاً بفمه الخالي من الأسنان.
وُضع الرجل الميت في قبره، وتمت تلاوة تعاويذ حارسة له من كافة الشرور، وجيء بالشيطان والذي مُثل في هيئة كلب رمادي اللون، وكديس أرقط، تم قتلهما بالحراب، ومن بعد، حرقهما، إلى أن خمدا وصارا رماداً، وسُمع عويل الشيطان وهو يتوسل، إلا أن الرجال الحزانى رفضوا توسلاته، وقال الرجل العجوز مجدداً، موجهاً حديثه لقريب الميت الأصلع؛ هكذا فقط يستطيع أن يرقد بسلام، ويلتقي بالأسلاف، فرداً فردا. أنا متأكد، أنه الآن يشكرنا، وسيبلغ الأسلاف أننا ما زلنا على سجيتنا، وموقودون للنار المقدسة، ما حيينا، وأحذرك من أن تعترض على ما ورثناه منذ الأزل، وإلا حاق بك غضب أولينا.
بلدة الرجال الحزانى، كما تُسمى، كانت ذات شرور على مر مئات السنين، وسبب تلك الغضبة من الأولين، أنه تم تناسي طقوس عديدة، من بينها طقس إقامة حفلات الموتى، بعد مرور أربعين يوماً، وطقس، ذبح القرابين، بعد مرور سنة، وزيارة المقبرات كلما، لم يعد بالإمكان إنجاب الإناث شائعاً، أو كلما مات طفل رضيع.
بالتوازي، مع ذهاب الرجال الحزانى إلى المقبرة، كانت النسوة، قد فرغن من أداء صلوات حزينة على روح الميت، وكان كلما إدلهم بهن الحزن، أوقدن من أرواحهن، آلاماً جبارة، لدرجة أنها تهطل مثل الأمطار، ويُسمع لها دوي وفرقعات مخيفة تصل حتى أسماع الرجال في المقبرة. ودموعهن المالحة كانت تسقط في آنيات، تُرش صباحاً في قبر الميت، بعدما تُجمع في آنية كبيرة، تحملهما أقرب امرأة رحماً للميت. ويكون هذا بمثابة التأمين الأخير له من شرور الشيطان، إذ أن تلك الدموع، تُحِل البركة على مرقده، ومن فرط تطهرها، فلن يقوى الشيطان على اقتحام قلب الميت، مهما استخدم من حيل.
حينما عاد الرجال الحزانى من المقبرة، كان الرجل الميت، يخوض معركة مريرة، ضد الشيطان، بعدما هطلت أمطار مفاجئة أطفأت الشعلة المضطرمة، وهو ما لم يكن بالحسبان، ولإيقاف هذه المعركة غير العادلة بين رجل ميت والشيطان بكل حيله المعروفة، فقد دعا الرجل العجوز، لاستدعاء واستلهام أرواح الأسلاف، وذلك بتقديم حفل أربعينية الميت، إلى اليوم، لأن في الموسيقى الجنائزية منجاة له من وسوسة الشيطان، وأن وقع الأصوات الطروبة التي تناجي ذكراه، يجعل قلبه فائقاً كما لو أنه قلب حي وينبض بالحياة.
كانت إحدى النسوة، في الأربعين من عمرها، هي من تغني في السنوات الأخيرة، في الأفراح والأتراح، وتم اختيارها، بعدما سُمع صوتها الجميل يتردد صداه في حياة الأسلاف على ما قيل، إلا أنه في الحقيقة، سُمع غداة يوم ولدت فيه ثلاث بنات على التوالي، وقد كانت تؤدي في أغنية مهيبة وراقصة يتخللها صفير ساحر ومموسق، وكان حينها الرجال الحزانى، لا يزالوا نائمين، حتى لا يسمعوا صراخ الوليدات الأول، فقد يشرخ هذا الصراخ قلوبهم الحزينة بالفرح.
استطاع الميت أن يقضي على الشيطان، حينما اشتعلت بلدة الرجال الحزانى بموسيقى وداعه التي تحميه من مكائده، وقد طرده صوت المغنية الأربعينية ذي الوقع السحري، ليس من حواف قبره وحسب، بل إنه هرب إلى خارج البلدة، وقد شوهد وهو راكضاً لا يلوي على شيء، وقد أصابه الرجل العجوز، وهو صائد قديم للشياطين بسهم ناري حارق، لم يصب روحه، لكنه قطع عليه آلاف الحيل، وحتى لو أنه لم يمت في وقت قريب، فلن يكون بمقدوره و لسنوات طويلة قادمة ممارسة حيله ومكائده في بلدة الحزانى، وبخاصة على الميتين.
* روائي وكاتب من السودان