الشاعر المستقر في ( ثقب الذاكرة )
سِر أناي كلويلجانق
كثيراً ما ينظر إليه جيل الشعراء الحديث بجنوب السودان علي انه أول من قدم نفسه إلى العالم المحيط به بصفة واسم الشاعر’’ سِر أناي كلويلجانق’’ ،لأنه كان مسكون بهذا الضرب الإبداعي بدرجة كبيرة و الذي بدأه في أواخر ستينيات القرن المنصرم ، فقد كانت القصيدة بالنسبة له المرآة ، الصوت الداوي ،و القضية ، كما جاءت كتاباته الشعرية ثورية مفعمة بالأمل وحب الفقراء وهو اتجاه تنامي في إبان ظهور مدرسة الاشتراكية الإفريقية و سيادة روح أدب الزنوجة التي ألقت بظلالها علي معظم تجارب الكتابة الإبداعية في القارة السمراء خلال تلك الحقب، وقد قال عن نفسه ذات مرة ( أنا شاعر جديد للقومية الإفريقية ، شاعر جديد للاشتراكية الإفريقية).
بالرغم من انه لم يصدر سوى مجموعة شعرية واحدة في العام 1985 ، عن دار (نيو بيكون) بالمملكة المتحدة ، حملت اسم (وهم الحرية وقصائد أخرى) ، لكن (سِر أناي) شكل علامة فارقة من خلال ما أضافه بإسهاماته في دفتره الشعري الذي استطاع أن يلهم الكثير من الذين جاءوا بعده ، وتتبعوا مساره الملحمي في الكتابة و التعبير عن الواقع ، الحياة ، و المبادئ الإنسانية النبيلة.
ولد سِر أناي شمال غربي مدينة رومبيك في العام 1945 ، وتلقي تعليمه الأولي بمنطقة “شويبيد” ، بعدها تم قبوله بمدرسة لوكا الوسطى في نهر ياي بالاستوائية ، إنتقل منها كسائر أبناء جيله من الطلاب إلى مدرسة رومبيك الثانوية .
قبل أن يصبح سر أناي ، كان اسمه آنذاك بيتر أناي ، التلميذ المثابر الذي كادت عقبة الرسوم الدراسية أن تحول دونه ودون مواصلة تعليمه الثانوي علي الرغم مما حقق من نجاح ، فقرر الذهاب إلى جوبا لمقابلة مدير التعليم بالمديريات الجنوبية آنذاك ، سر الختم الخليفة ، لكنه عَزَمَ برغم أن الكثيرين اعتبروها مغامرة لصبي يافع ، وسافر إلى جوبا حيث استقبله سر الختم ببشاشة ، وقام بإعفائه من الرسوم الدراسية ، وما إن عاد إلى رومبيك حتى قام بتغيير اسمه من بيتر أناي إلى سر أناي ، تقديراً لما قدمه له سر الختم الخليفة الذي صار فيما بعد رئيسا للحكومة الانتقالية في أعقاب ثورة أكتوبر 1964.
وبعد أن جلس للشهادة الثانوية حصل أناي علي منحة جامعية من حركة (هارامبي) الثقافية الاجتماعية التي كان يرعاها جوليوس نيريري لدراسة الصحافة والإعلام في دار السلام بتنزانيا ، وهي الفترة التي شهدت بداية تأثره بأفكار الاشتراكية الإفريقية قبيل انتقاله إلى بومباي بالهند لمواصلة دراسة الصحافة .
تزامنت عودة سر من الهند مع استيلاء المشير جعفر نميري علي السلطة عبر انقلاب عسكري في مايو 1969، حيث بدأ بمزاولة مهنة الصحافة ليلتحق بصحيفة نايل ميرور التي كانت تصدر عن وزارة شئون الجنوب ، وبعد توقيع اتفاقية أديس أبابا بين حكومة نميري و حركة تحرير جنوب السودان بقيادة جوزيف لاقو انتقل سِر إلى العمل بوزارة الثقافة والإعلام الإقليمية بجوبا ، بعدها أسس صحيفة “هيريتج” في العام 1980 وأصبح أول رئيس تحرير لها .
وعندما أعلن الرئيس النميري تقسيم جنوب السودان إلى ثلاثة أقاليم ، وإلغاء الاتفاقية ، ابدي سِر أناي كلويلجانق ضمن مثقفين آخرين من جنوب السودان معارضته لقرارات نميري ، ليصبح مطلوباً من قبل الأجهزة الأمنية ، فغادر جوبا إلى رومبيك حيث اعتقل هناك ، وتكرر اعتقاله لأكثر من خمس مرات كان آخرها في العام 1984 حيث بقي في الخرطوم حتى ما بعد الانتفاضة في 1985.
أعاد سِر إحياء صحيفة “هيريتج” من المكتب التابع لإقليم بحر الغزال من الخرطوم ، لكنه غادر بعدها إلى كلية لندن للصحافة بعد حصوله علي منحة لدراسة الماجستير و التي نالها علي رسالته عن (الكوارث الإفريقية في الصحافة العالمية) ، وبمجرد أن فرغ من دراسته توجه إلى نيروبي ليعمل محاضراً لطلاب الدراسات العليا بكلية الإعلام بجامعة كينياتا ، وفي نهاية التسعينيات عاد سِر مجدداً من نيروبي إلى لندن للتحضير لدرجة الدكتوراة في ذات الكلية التي حصل منها علي درجة الماجستير، وهناك أقعده المرض نهائياً أواخر التسعينيات بعد أن كان قد شارف علي إنهاء الدراسة التي تؤهله لدرجة الدكتوراة.
خلال مسيرته الإبداعية الطويلة ، لم يخفي سِر ميوله وانتماءاته السياسية إطلاقاً ، حيث التحق بالحركة الشعبية بعد مجئ الإنقاذ ثم انشق عنها في وقت لاحق ، حصل سِر علي العديد من الجوائز الرفيعة من الدولة لإسهاماته الأدبية.
رحل سِر أناي ، مخلفاً ورائه تراث ضخم لكنه أُهمل من قبل مجاليه ، بحيث لم يفكر المثقفين و الكتاب الذين عاصروا تجربته التنقيب في ارثه وقصاصاته الشعرية غير المنشورة ، مساهماته ومقالاته الموزعة علي الصحف و المجلات التي عمل فيها ، دراساته غير المنشورة ، لان الحديث عن تخليد ذكراه يبدأ من الاحتفاء به علي مستوى الذاكرة الوطنية الجماعية .
يقول عنه صديقه المحامي والشاعر السوداني كمال الجزولي في كتاب الآخر – بعض إفادة مستعرب مسلم عن أزمة الوحدة المتنوعة في السودان ، الصادر في طبعته الثانية عن دار رفيقي للنشر بجنوب السودان: ( لم تمهل المنية السِر طويلاً ، فتوفى ، عليه الرحمة ، في لندن شتاء عام 1999، وهكذا أعفانا ، مرة وإلى الأبد ، من مشقة النظر إلى عينيه الحزينتين ، وهو يتلو علينا (حيثياته) الختامية ، مثلما اعفى نفسه هو أيضاً ، مرة و للأبد ، من نظرة استفهام أخيره تطل من عيني حبيبته ، وزوجته ، وأم عياله السيدة رجبية عبد الله مانجوك مبوك التي لطالما كابدت شظف العيش معه … بينما لا يزال يتردد في مسامعها ، ولابد ، شيء من صدي قصيدته (ثقب في سقف البيت) التي زينها بإهداء رقيق لها في ديوانه ، وكم كان يهدهدها يدفئها في ليالي الجوع والبرد الموحشة :” آه لكم تبدين حائرة يا حبيبتي ، كأنك لم تفهمي ، بعد ، تماماً ، لماذا نبدو وكأننا لم نبلغ أي مكان ، دعيني أقولها لك صريحة إذن:
إن ما نكابد لان من شقاء هو ، حتماً ، ما سيشكل القيمة السامية
لكل الذي سوف نجنيه في نهاية المطاف
ولذا فلا تغرنك لغة النجاح والفشل
إن الثقب الذي يرشح في سقف بيتنا
قد يكون بالحق ، هو سبب زكامنا المستديم
ولكن ، اوليس من المحتمل أيضاً انه موجود هناك
لكي يحثنا علي مواصلة النضال الرفاقي
كتف إلى كتف
مع الكتل الفقيرة
من مآثر الراحل (سِر أناي كلويلجانق) أيضاً انه هو الذي تقدم بإطلاق اسم (كرامة) للمجلة التي تصدر عن اتحاد الكتاب السودانيين ، وكانت محاجته تتمثل في شمول العبارة التي يستخدمها السودانيون جميعا برغم تعدد اللغات ، لكنهم يتداولون الكلمة (كرامة) بذات الدلالات و المغزى في التعبير عن المناسبة.
* * نُشرت المادة تزامناً مع ملف الموقف الثقافي الذي تصدره صحيفة الموقف بجنوب السودان.