ثمار

هذيان صاخب تحت وطأة “الكينين”

شنقر

سوف أشتري دبابة معطوبة المدفع، وأُعلن انقلابي في الإذاعة في فجر يومٍ خريفي!.
عندها فقط سوف يتسنَّى لي حُكم هذه البلاد الكبيرة، وأتمتع بممارسة السلطة على الجميع. لكنني قبل أن أفكر في مسألة الحكم هذه لا بد من أن أنضم للجيش لتلقي التدريب البدني والتكتيكي لخوض الحروب بجانب تعلُّم استخدام مختلف أنواع الأسلحة. وهذا هو المهم بطبيعة الحال. لا.. بل هذا هو أساس ولوجي عتبة بوابة القوات المسلحة. إذ عندها فقط يمكنني تنفيذ مخططي الانقلابي الذي سيغيِّر خارطة هذه البلاد.
لكن مهلاً..
مهلاً. بالأمس كشف لي بعض الأصدقاء الذين كنتُ أتحدث معهم عن معلومة مهمة وخطيرة. الحديث الذي جرى بيننا كان حديثاً شائقاً وممتعاً وطويلاً. ألمحتُ لهم بطرفٍ خفي عن نيتي عمل تغيير جوهري في حياتي الخاصة وتطرقتُ إلى نيتي العمل بقيام تغيير إيجابي على المستوى العام. لكن وقتها كانت الخمر قد لعبتْ بالرؤوس ولم ينتبه أحد لما تفوهتُ به.  فقلت في نفسي (عندما أُعلن انقلابي في الإذاعة ستدركون أهميتي وعندها سيستمع لي كل الشعب وليس أنتم وحدكم. فقط أمهلوني وقتاً كافياً).
على نحوٍ غير مُتوقع، هتف أحدهم وكأنما كان يقرأ أفكاري: ولماذا لا تنضم لحركة متمردة وتستعجل الأمر، خصوصاً أن عملية الانضمام للجيش تستغرق وقتاً طويلاً. لماذا لا تختصر الوقت؟
هذه فكرة ممتازة فعلاً. لماذا أزعج نفسي بالانخراط في عملية طويلة من التدريب الشاق والتكتيكات المملة؟ سوف أنضم لحركة مسلحة وأتدرج بسرعة حتى أصل لرتبة جنرال، وبعدها يمكنني عمل انقلاب على قائد الحركة ومن ثم أستلم الحكومة.
لكن.. لدي شكوك ومخاوف وكثير من الهواجس في هذا الأمر. لا أعتقد أن العملية يمكن أن تمضي بهذه السلاسة. أعتقد أن المسألة فيها الكثير من الجوانب المعقدة. ليس من السهل الانضمام لحركة متمردة على نظام الحكم. قادة هذه الحركة لا بد أن يُخضعوا الفرد للعديد من الاختبارات والامتحانات. لا يمكن أن يكونوا بهذه السذاجة ويثقوا بهذه السهولة في من يتقدم للانضمام لهم. لا بد من أن هناك العديد من الاختبارات التي يجب الخضوع لها حتى تنال ثقتهم.
لا. هذا الأمر معقد أكثر من مسألة الانضمام للجيش نفسها!.
لماذا هذه الحياة معقدة هكذا يا رب؟.
كل ما أودُّ القيامُ به انقلابٌ عسكري صغير يطيح بنظام الحكم القائم، حتى أتمكن أنا من حكم البلاد لعددٍ من السنوات ومن بعدها سيأتي أحدهم ينفذ ضدي انقلاباً مضاداً!.. أليست هذه هي طبيعة الحالة منذ أن خرج الإنجليز من هذه البلاد قبل أكثر من نصف قرن؟

ربما أموت في هذا الانقلاب العسكري المضاد لسلطتي. إذن لماذا كل هذه المخاطرة من الأساس؟
سمعتُ هاتفاً داخلي يقول: من أجل الشعب!.
الشعب؟ من هو الشعب؟ أنا أريد أن أحكم الناس، ولا أريد عمل انقلاب من أجل سواد عيون هذا الشعب!.
لكن الهاتف الملحاح ظلّ يطرق بصوته طبلة أذني: أنت منوط وبطل التغيير القادم. لا بد أن تقوم بانقلابك بالسرعة المطلوبة حتى يتغير الوضع الحالي وينعم الشعب بالحريات والرفاهية.
هذا الهاتف الداخلي لا بد أن يكون مخبولاً. مالي أنا ومال الشعب ومال الحريات والرفاهية!
اسمع أيها الهاتف العجيب: أنا أريد أن أحكم فقط. لا تقل لي شعب وحريات وبطيخ. ليس من شأنك التدخل في عمليتي الانقلابية. هذه عملية سرية جداً ولا يمكنني التحدث عنها أكثر من ذلك ضماناً للنجاح. إذ ليس من المعقول أن أتحدث مع كل من هبّ ودبّ عن الانقلاب وكأنه نزهة في حديقة عامة! بالله عليك أيَّها الهاتف امضِ لعملك ودعني أُرتب شؤون انقلابي على مهل.

أووف. هؤلاء الأصدقاء فعلاً ملاعين. لماذا تحدثت لهم عن عمليتي السرية. كان يجب أن أحيط العملية بكامل السرية الواجبة. ها هم يريدون تغيير وجهتي بعد أن اتخذت قراراً مهماً وكبيراً في حياتي. كنت قد قررت الانضمام لحركة مسلحة تسليحاً جيِّداً، لكن سرعان ما بادرني الأصدقاء بفكرة جديدة.
أوووه. هذا الأمر ليس جيداً. لا يسعني التفكير بهذه الصورة. رأسي تشوّش. أفكار كثيرة تدور في وقتٍ واحد في رأسي. التفكير الكثير عملية غير صحية بالتأكيد.
قبل أن تستوي فكرة انضمامي لحركة مسلحة جيّداً في عقلي، دفع الأصدقاء بفكرة أخرى مقنعة تبدو سهلة جداً. إذ فجأةً وبطريقة درامية قال أحدهم: اسمع لماذا لا تجرِّب تجارة الأسلحة؟. فهي تدرُّ أرباحاً طائلة، ويمكنك عمل ما تشاء بما تملك من ترسانة السلاح.
من أين تخطرُ لهم كل هذه الأفكار العجيبة؟
كل مرة يدفعون بفكرة أقوى من سابقتها. لا بد من أنهم يعرفون الكثير عن الحياة وتجاربها. راقتني فكرة تجارة الأسلحة كثيراً وفرحت بها حتى أنني قفزت أكثر من مرة منتشياً بفرحٍ طاغٍ. يا لها من فكرة لها جوانب مفيدة كثيرة. أولاً: يمكنني من عائد بيع السلاح توفير مبالغ كبيرة من العملة الحرة. وبطبيعة الحال لا يمكن عمل انقلاب بدون مال. لماذا لم تخطر في رأسي هذه الفكرة الجهنمية من قبل؟ ثم ثانياً: تجارة السلاح سوف توفر أجود أنواع الأسلحة التي يمكنني من خلالها تنفيذ عمليتي الانقلابية ضد نظام الحكم الحالي.
يا لها من فكرة عبقرية. طيلة الأيام السابقة التي كنتُ أفكر فيها في الموضوع لم تخطر على ذهني البتّة. أمر غريب فعلاً. هؤلاء الأصدقاء السُّكارى، يمكنهم ابتكار العديد من الأفكار الملهمة. هل هذا بسبب الخمر؟ وهل الخمر مُحفزة على التفكير هكذا؟ أنا لم أشرب الخمر من قبل، وقد حاول أصدقائي كثيراً في جلساتهم دفعي لتذوق كؤوس متلالئة بالثلج وتبدو برَّاقة وشهية. لكنني كنتُ أصدهم بحزم، فقد كنتُ أعرف أن شرب الخمر حرام. الخمر غير جائز شرعاً، وكل من يشرب الخمر سوف يذهب إلى النار.
لكن كيف يمكن لشارب الخمر أن تهبط عليه مثل هذه الأفكار؟ أمر غريب ومدهش!
لن أزعج نفسي بالتفكير في هذه الأمور العويصة، فهي حتماً ستدفعني لعملية تفكير معقدة، وهذا سوف تصرفني من موضوعي الأساسي الذي يجب أن أجند له كل طاقاتي وتفكيري.
الهاتف الداخلي الذي نسيته في غمرة انشغالاتي بالتخطيط برزَ من مكمنٍ ما، وأراد بنداءاته المُزعجة إفساد مخططاتي. استمع له ماذا يقول:
–    أنت تسيرُ في طريقٍ وعرة. لا تكن ساذجاً هكذا. تجارة الأسلحة ليست مسألة سهلة. ثم إنها تجارة غير أخلاقية. ابتعد عن هذا الطريق أرجوك.
ما شأن هذا الرجل الغريب بي. ليتني ما عرفته يوماً، لكنه ما فتئ كل يوم يُفسد عليَّ ما أنا بصدده من خطط. أكثر من مرة حدثته لكي يتركني وشأني. لكنه عنيد لا يريد أن يتركني. يقول إنني ساذج ويمكن لأيِّ غِر أن يخدعني. هذا شخص لا يُطاق فعلاً. كيف لإنسان مثلي أن يكون ساذجاً وهو مُقدِم على تنفيذ عملية انقلابية تُطيح بنظام الحُكم؟ هل هناك ساذج أو عبيط يمكنه التفكير في عملية دقيقة مثل هذه؟ أعرف أنه يريد أن يخدعني ويصرفني عن تنفيذ الخطة حتى لا أصير مشهوراً في كل الدنيا، بعد أن يتم تنصيبي حاكماً عاماً على كافة حدود هذه البلاد الشاسعة.
إنه حقود. يخاف أن أتركه قابعاً في كهوفه الداخلية المُظلمة، وأكون أنا تحت الأضواء مباشرةً وعلى الدوام. هذا صنفٌ من البشر لا يحبُ الخير لأخيه الإنسان. صنف موجود في كل العالم. لا يريد أن يتقدم ولا يترك الآخرين يتطورون ويتقدمون للأمام. لكنني سوف أتركه في ظلماته القصيِّة،  وحيداً، حتى يتلاشي، في يوم من الأيام، ويأكل نفسه من الحقد والحسد.

لن يأخذ هذا المأفون مني تفكيراً أكثر من هذا. لديَّ الكثير الذي يجب أن أهتم به. عليَّ أن أفكر جيداً في أمر تجارة السلاح وبصورة عملية وتجارية. يجب أن أتحصل على عناوين كبار تجار الأسلحة في العاصمة حتى أستطيع التقرُّب ومنهم ونيل ثقتهم، ومن ثمَّ يمكنني مباشرة العمل معهم. سوف أتحصل على أموال من إخوتي وأقربائي المهاجرين خارج البلاد. سوف أقول لهم إن لديَّ مشروعاً تجاريَّاً يحتاج لأموال وسوف أجعلكم شركاء في هذا المشروع بأسهم متكافئة. أظنهم سيوافقون وسيرسلون الدولارات واليوروهات والريالات. سوف يتراكم لديَّ رأسمال، يمكنني البدء به. إذ لا يعقل أن أدخل بوابة تجارة السلاح من دون رأسمال.  عندما يرى تجار الأسلحة أنني أملك المال، سوف يثقون بي أكثر ويتعاملون معي دون خوف. لكنني، أبداً، لن أكشف لهم مخططي الأساسي. سوف يتعاملون معي على أساس أنني تاجر يطمح في مزيدٍ من المال. لكن أنا صاحب طموح. أبحثُ عن المجد والخلود وليس المال. هل قلت: الخلود؟ ما شأني بالخلود؟ طموحي الحكم والمجد في الدنيا، وسوف أترك الخلود للشعراء المجانين الفقراء الذين يتحدثون عن حب الوطن، ليلَ نهار، وليس في بيوتهم وجبة عشاء! ما شأني أنا بالخلود؟!.
هكذا، يا سادتي، اكتملت خطتي. لم يبقَ سوى التنفيذ. غداً سوف أدخل التاريخ من أوسع أبوابه.
غداً؟
ليس غداً، أي بعد أربع وعشرين ساعة تحديداً! أعني الكلمة بصورة مجازية. ربما بعد عام، أو عامين، أو ثلاثة على أبعد تقدير. بعد انقضاء هذه الأعوام القليلة سأكون قد أكملت ثلاثين عاماً فقط. عمري ثلاثون عاماً، وأحكم كلّ هذه البلاد الشاسعة من أقصاها لأقصاها. سوف أنام في القصر الجمهوري. يا للهول. القصر الجمهوري! هل تدركون ما معنى هذا؟. هذه حياة لا يحلم بها إلاَّ أصحاب الطموح العالي من أمثالي. سوف أترك أصدقائي، مدمني الخمور الرديئة، في جلساتهم التعسة تلك يسبّون الحكومة ما شاء لهم السّب. لكن في يومٍ من الأيام سوف أتفرغ لهم، بعد أن أُنجز شؤون الحكم المهمة، وأقوم بمداهمتهم واعتقالهم جميعاً. ولن أسمح بأيِّ وساطات لإطلاق سراحهم. أنا لا أجامل في مثل هذه المسائل المُفسدة. خصوصاً ما يتعلق بالخمور والحشيش. كلها أمور مُفسدة وتجلب الكسل والنوم. وهذا يعني عدم الإنتاج. أنا لن أسمح بهذا. لن أسمح بهذا.. أبداً. على جثتي أيها الخونة والمارقون. يا شاربي الخمر. يا كفار. قاتلكم الله. سوف أسجنكم جميعاً وربما أقتلكم داخل السجن. أيَّها الـ..
ـــــــــــــ
تحتَ لهيب حمَّى الملاريا الحارق كان هذيان منصور الذي تخرَّج حديثاً من الجامعة غير مُحتمل بالنسبة لأمه، التي ظلت تلازمه منذ يومين، دون أن يهدأ لحظة أو تبرد درجة حرارته.
قبل قليل، طمأنها الطبيب أنّ حرارة الحمَّى أخذت تنخفض شيئاً فشيئاً. وأنه بحلول المساء سوف يتعافى تماماً، بعد أن حقنه الطبيب بسائل أصفر في إليته. لمستْ أمه جبهته المنداة بالعرق، فوجدت أن حرارة جسده بدأت تنخفض. لكنها لم تطمئن تماماً، إلاَّ بعد أن توقف هذيان منصور وحديثه المتكرر، منذ يومين، عن إعلان انقلاب عسكري ما.

*قاص وصحافي من السودان

زر الذهاب إلى الأعلى